كتاب السيِّد عبد الصاحب الحسني العاملي
الأخلاق عند الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وأصحابه
العودة إلى المثل العليا في الإسلام
أ.د. عبد المجيد زراقط
يبدأ العلاَّمة السيِّد عبد الصاحب الحسني كتابه بتسويغ التأليف في هذا الموضوع، فيرى أنَّ تقصِّي أحوال المجتمع يفيد أنَّ الأخلاق قد فسدت، وأنَّ هذا الفساد يعدُّ من المشكلات الرئيسيَّة في المجتمع كالجهل والفقر والمرض، وأنَّ الدَّواء الناجع لهذا الداء يتمثَّل في العودة إلى المثل العليا التي دعا الإسلام إلى اتباعها، وباتخاذ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والأئمة (عليهم السَّلام) والصحابة والأخيار المنتجبين (رضي الله عنهم) قدوة، وبغية معرفة هذه المثل وأصحابها كان هذا الكتاب الذي يهدف إلى تحديد الدَّاء والدَّواء.
وقبل أن أقدِّم معرفة بما تضمَّنه الكتاب، يبدو لي أنَّه من المهم أن ألقي ضوءاً يكشف ملامح من شخصية السيِّد، بوصفه العالم القدوة الذي علَّم المثل العليا بسيرته في الوقت نفسه الذي علَّمها فيه بخطبه وأحاديثه وكتاباته. وما سوف أقوله هو شهادةٌ شخصية تتضمن بعض الوقائع التي أرشدني فيها إلى سبيل الصواب.
يُغضـي حياءً، ويُغضى من مهابته |
فمـا يُكلَّـم إلا حين يبتسم... |
تقلَّصت ابتسامته لحظة، ثمَّ تقدَّم، وألقى كلمته...، وأسرَّ لي وهو يغادر المنبر: لي معك كلام، وفي حديث خاص، قال لي: هذا الشعر قيل في الإمام زين العابدين (عليه السَّلام)، وأين أنا منه!؟ وهو مبالغة، عليك أن تتجنَّبها في كلامك وكتاباتك، واحرص على أن تقول في الشخص ما هو فيه... كان هذا درساً تعلمته منذ ذلك الحين.
وذات مرَّة، سألني عمَّا أقرأ وأكتب، فأخبرته، وكانت اهتماماتي آنذاك مركزة على الأدب والفكر الغربيين، فابتسم، وقال لي: جيد أن يعرف الإنسان الآخر ونتاجه، ولكن ينبغي عليه أوَّلاً أن يعرف ذاته، ويعرِّف بها، فلدينا في جبل عامل كنوز لم يُكشف عنها. ولمَّا اعتذرت بأن ليس لدي مصادر أعود إليها، عرضت ابتسامته ، ونهض، وهو يقول: لك عندي هدية، وقدَّم لي ما في مكتبته من أعداد مجلة "العرفان"، وقال لي: لم يعد لديك عذر، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعمل في ما أعمل، على معرفة الأدب والفكر العامليين والتعريف بهما، وأحثُّ زملائي وطلابي على القيام بذلك.
أكتفي بهذا القدر، لأقرر أن سماحة العلاَّمة السيِّد عبد الصاحب الحسني (رحمه الله) كان من العلماء الذين يقرنون القول بالعمل، وإن خطب وكتب في الدعوة إلى المثل العليا في الإسلام، فإنَّه كان يتصف في سلوكه بهذه المثل، ويخطُّ منهجاً ويدعو إليه، ويعمل به، وهذا ما يكسب الكتاب الذي نقرأ صدقية واقعية.
وعلاوة على هذه الصدقية، نلاحظ أنه يركز البحث في القضية أو المسألة، التي يبحث فيها، فإن استطرد ليقدم مثالاً، يعود إلى القضية أو المسألة نفسها، فعندما يتحدث عن الشكر لله سبحانه وتعالى، على سبيل المثال، يعرِّف بلقمان الحكيم بوصفه مثال الإنسان الحكيم الشكور، ويقول: لم ينل ما ناله من مكانة لا بحسب ونسب ولا بجاه ولا بجمال ولا بقوَّة وإنَّما بأعماله، ويستطرد في الحديث عن هذا الرجل الذي يجسِّد قيمة من منظومة القيم الإسلاميَّة، ويقول: "ولو أردنا بيان أحوال حياته الشَّريفة لاحتجنا إلى مجلَّد ضخم، ولخرجنا عن موضوع بحثنا الذي نحن في صدده"، وهكذا يفعل في غير موضع من الكتاب (راجع على سبيل المثال: ص. 19 و40).
وهنا نلمس قيمتين من منظومة القيم الإسلاميَّة، أولاهما اقتران القول بالعمل، وثانيتهما أن ما يقوم به الإنسان من عمل هو الذي يحدد قيمته ومكانته في المجتمع، وثوابه في الآخرة. يقول الله، سبحانه وتعالى، في كتابه الكريم: ﴿وما تقدِّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله﴾، فالخير إنما يقدمه الإنسان لنفسه، ويجد ثوابه في الآخرة، ويقول الإمام علي (عليه السَّلام): "قيمة المرء ما يحسنه". وإذ يحدِّد الإسلام قيمة الإنسان في ما يقدِّمه من خير، يضع مقياساً للتفاضل بين الناس، هو التقوى، جاء في القرآن الكريم:﴿يا أيُّها النَّاس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم. إنَّ الله عليم خبير﴾، وجاء في الحديث الشريف: "لا فضل لعربي على أعجمي إلاَّ بالتقوى".
وهكذا يكون الإسلام، في حقيقته وجوهره؛ كما يرى السَّيد الحسيني في كتابه الذي نقرأ، ديناً ومدرسة اجتماعية في آن، فهو دين يعرف البشر بخالقهم، ويهديهم إلى طريق الوصول إلى رضى الله سبحانه وتعالى ورضوانه وجنان رحمته، وهو في الوقت نفسه، مدرسة اجتماعية تهدي الإنسان إلى تلك الطريق، وتفضي بالإنسانية جمعاء إلى العيش في سعادة وصفاء، وذلك لأنها ترسي أسس المجتمع الإنساني الأمثل.
وقد استقصى السيد الحسني، في كتابه هذا، معظم ما كتب عن معالم الإسلام في هذا الشأن، ورتبه في ثلاثة أبواب، يبحث أولها في نِعم الله ووجوب شكرها، وثانيها في العلم وآدابه، وثالثها في آداب المفتي والمستفتي وشروط الإفتاء، وختمه بخاتمة بحث فيها بحثاً وافياً في القضاء والقاضي وشروطهما.
وقدَّم ذلك بأسلوب سهل بسيط، عميق وشامل في آن، يمكن للقارئ العادي أن يتلقاه بيسر، في الوقت نفسه الذي يجد فيه المختص غايته، وإن تكن القضايا التي يثيرها الكتاب، ويبحث فيها، كثيرة، فإننا سنقصر الحديث، حسبما يقتضي المقام على القضايا المركزية منها، وهي: 1- نِعم الله، سبحانه وتعالى، ووجوب شكرها ومفهوم الشكر. 2- العلم بوصفه نعمة من هذه النِعم، وأهميته، ووظائفه. 3- النظرية التربوية الإسلامية، المتمثلة في الكلام على آداب/أخلاق أو أصول المفيد والمستفيد والمعلم والمتعلم، ما يفضي إلى الكلام على علاقة العالم، وبلغة أيامنا المثقف، بالسلطان. 4- النظرية الإسلامية في الإفتاء والقضاء.
في بيان نِعم الله، سبحانه وتعالى، ووجوب شكرها، يعرِّف السيِّد النِّعم بأنَّها كل ما أنعم الله، سبحانه وتعالى، على الإنسان، وهي، كما جاء في القرآن الكريم لا تحصى: ﴿وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها﴾، والإنسان البصير لا تقع عينه، في عالم الوجود على شيء، إلا ويتحقق لله، سبحانه وتعالى، عليه نعمة. وبعد تقديم التعريف والتفصيل فيه، يقرِّر أنَّ من واجب الإنسان شكر هذه النِّعم. ويتمثَّل الشكر، أوَّلاً، في الاعتقاد والاعتراف بأنَّ النِّعم في هذه الدُّنيا هي منَّة من الله سبحانه وتعالى، وثانياً في توظيف هذه النِّعم في سبيل رضى الله ورضوانه. وليس في سبيل معصيته، أي في طريق التقوى، وهي كما مرَّ بنا معيار التفاضل بين النَّاس، وهذا التوظيف يمضي بالإنسان في مسار يوصله إلى الكمال، وتالياً إلى السعادة في الدنيا وجنان الرحمة في الآخرة، والواجب يقضي بأن يشكر المرء المخلوقٍ إن أسدى إليه معروفاً، جاء في القرآن الكريم: ﴿وأمَّا بنعمة ربِّك فحدِّث﴾، وعن الإمام علي (عليه السَّلام) قوله: "أسرع الذنوب عقوبة كفران النِّعم".
ولدى الحديث، عن العلم بوصفه نعمة من نِعم الله، يعرِّف العلم، فيرى أنَّه "عبارة عن الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل"، وبه تعرف ماهيات الأشياء وحقائقه، ويرى في المقابل، أنَّ الجهل ليس جهل المعرفة فحسب، وإنَّما هو إضافة إلى ذلك، سلوك، وصفه الحديث الشريف، عندما وصف الجاهل بالقول: الجاهل هو من "أعطاك منَّ عليك، وإن أعطيته كفرك [أي أنكر عطاءك ولم يشكره] وإن أسررت إليه خانك، وإن أسرَّ إليك اتهمك، وإن استغنى بطر، وإن افتقر جحد نِعم الله، وإن فرح أسرف وطغى، وإن حزن أيس...". وطبيعي أن يكون سلوك العالم على النقيض من سلوك الجاهل، إذ إنَّ أداته هي العقل، ومعناه العقال، أي المانع من الجهل، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالقول: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعظم منك...
وطبيعي أن يكون للعلم الفضل الكبير وقد تحدَّث القرآن الكريم عن الفرق الكبير بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فجاء فيه: ﴿وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾، كما حثَّ على طلب الازدياد في العلم، فجاء فيه: ﴿وقل ربِّ زدني علماً﴾.
ودعامة العلوم، والركيزة الأساسيَّة لها ولصحبتها، علم التوحيد؛ وذلك يعود لسبب أساس هو معرفة الدين وأحكامه، إضافةً إلى أنَّ هذا العلم هو الذي يحدِّد وظائف العلوم الأخرى، ويوجِّهها في سبيل خير الإنسان ومرضاة الله سبحانه وتعالى، فمنجزات العلوم يمكن أن توظَّف في الخير والشر، والعالم التَّقي لا يمكن أن يعمل إلاَّ ما يفضي إلى خير الإنسان ورضوان الله سبحانه وتعالى، وهنا نلحظ شمول الرؤية الإسلامية إلى العالم وقضاياه وشؤونه وتكامل منظومة القيم الإسلاميَّة، فالعلم نعمة إلهية، وشكر المنعم بها يتمثَّل في وجوب تحصيلها ووجوب حسن توظيفها في خدمة الإنسانيَّة ومرضاة الله سبحانه وتعالى. وقد روي عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قوله: "من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنَّة"، وإن حاولنا فهم الحديث القائل: "العلماء ورثة الأنبياء" نرى أنَّ الأنبياء ورثوا العلم، فمن أخذ شيئاً منه أخذ بحظٍّ من النبوَّة. ولهذا قال الإمام علي (عليه السَّلام): "إنَّ كمال الدِّين طلب العلم والعمل به"، والعالم يكون حليماً صبوراً متواضعاً طاهر القلب، واسع الصَّدر...، وفي هذا السياق نفهم قول الإمام علي (عليه السَّلام): "قصم ظهري عالم متهتك وجاهل متنسِّك".
والأصل الأساس، في أصول التعلم، أو آدابه، كما يرى السيِّد تطهير النَّفس واليد والِّلسان...، أي الوصول إلى الدرجة التي يوصل إليها شكر نِعم الله سبحانه وتعالى، والوصول إلى هذه الدرجة يؤتي العزَّ في الدنيا والجنان في الآخرة. روي عن الإمام الحسن (عليه السَّلام) قوله: "إذا أردت عزَّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج عن ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعة الله". وهنا نلحظ الثنائية الضديَّة المتمثِّلة في طرف أوَّل هو الذُّل المقترن بالمعصية وفي طرف ثانٍ، وهو العز المقترن بطاعة الله سبحانه وتعالى.
والعزُّ، كما يرى السيِّد، يقتضي أن يكون العالم سلطاناً لا يخضع لسلطان سوى الله سبحانه وتعالى، وهنا يتطرق إلى علاقة العالم بالسلطان، أو ما يسمَّى اليوم علاقة المثقف بالسلطة، فيستشهد بما جاء في الحديث الشريف، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "الفقهاء أمناء الرُّسل ما لم يدخلوا في الدنيا". فقيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدُّنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم".
والعالم الذي يصدق عليه وصف رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) للفقيه، أي أميناً من أمناء الرُّسل، يكون، كما يرى السيد الحسيني، نجماً يهدي الأخيار، في حين يكون الفقيه الآخر الذي يرى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) أن يحذر المؤمنون منه على دينهم دخاناً يعمي الأنظار. وهنا يصدق قول الشَّاعر:
تواضـع تكن كالنجم لا لناظرٍ |
على صفحات الـماء، وهو رفيع |
|
ولا تك كالدخان يعلو بنفسـه |
إلـى طبقات الـجو، وهو وضيع |
ويفصِّل السيِّد في ما ينبغي أن يتصف به العالم المعلم والطالب المتعلم، ما يقدِّم نظريَّة تربوية إسلاميَّة، كما أنَّ التفصيل في آداب المفتي والمستفتي، وفي قضية الإفتاء يعدُّ نظرية إسلاميَّة في هذا الشَّأن.
وهاتان النظريتان يمكن للبحث الحديث فيهما أن يفيد مما يقدِّمه الإسلام، كما يمكن الإفادة من الأصول التي يقررها السيد في تطوير نظرية إسلاميَّة حديثة شاملة.
وحسب السيد أنَّ أثار القضايا وأصَّل البحث، ومن الأصول التي يعود إليها ويستفيض في شرحها نذكر على سبيل المثال، قول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): "لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس، فإمَّا في الجنَّة وإمَّا في النَّار".
وفي الختام يمكن القول: إن يكن الإنسان في هذه الدنيا كما قال الشاعر:
ألا إنَّما الدنيا كمنزل راكبٍ |
أناخ عشيَّاً، وهو في الصبح راحل |
فإن الإنسان المؤمن التقي، الشَّاكر نِعم الله...، يسعى في هذه الدُّنيا، إلى أن يرقى إلى المستوى الذي يخوله الرحيل إلى موطنه الأوَّل الذي هبط منه إلى الأرض،... وليكن هذا صيده إن كان كل من في الوجود يطلب صيداً.
كـلُّ من فـي الوجود يطلب صيداً |
غيـر أنَّ الشباك مـختلفات |
رحم الله العلاَّمة السيِّد عبد الصاحب الحسني، فقد كان ذلك العالم الذي يصفه في كتابه، لأنَّه، كما قلت، منذ بداية حديثي كان يقرن القول بالعمل، والكتابة بالفعل، فكان القدوة، والمثال.
جميع الحقوق محفوظة لــ موقع بلدية مركبا
2012-2014