موقع بلدية مركبا

  • الخلاصات
  • اتصل بنا
  • الرئيسية
  • الرئيسية
  • اخبار البلدية
  • نشاطات عامة
  • مشاريع البلدية
    • قيد التنفيذ
    • للتنفيذ
    • أفكار مشاريع
  • أخبار عامة
  • Facebook
  • Twitter
  • ألبوم الصور
  • صفحة المقالات
  • اتصل بنا
  • RSS

أقسام المقالات

  • اخبار بلدية مركبا
  • نشاطات عامة
  • دراسات عن مركبا
  • مشاريع البلدية
    • قيد التنفيد
    • للتنفيذ
    • أفكار مشاريع
  • مكتبة البلدية
  • أخبار عامة
  • قصص من الذاكرة
  • رياضة
  • وفيَّات
  • أرشيف البلدة

محرك البحث


أكثر المقالات زيارة

  • مشروع الحديقة العامة في بلدة مركبا - تصميم شركة أرش
  • قراءة في صفحات مطوَّية من تاريخ جبل عامل قرية مركبا أنموذجاً
  • بدأ اعمال التحديد والتحرير في مركبا بتاريخ 7-5-2012
  • مسابقات أدبية
  • حكايات وأمثال محليَّة من ذاكرة قرية مركبا

أقسام المقالات » دراسات عن مركبا » حكايات وأمثال محليَّة من ذاكرة قرية مركبا

حكايات وأمثال محليَّة من ذاكرة قرية مركبا

القسم : دراسات عن مركبا - الزيارات : 6513 - التاريخ : 10/2/2013 - الكاتب : أ.د. عبد المجيد زراقط
عدد المقيّمين 4 وإجمالي التقييمات 13 1 2 3 4 5

حكايات وأمثال محليَّة

من ذاكرة قرية مركبا

أ.د. عبد المجيد زراقط


جمعنا القليل، وبقي في الذَّاكرة الكثير

نذكر، في ما يأتي ما تمكنَّا من جمعه من حكايات وأمثال محليَّة، أي حكايات وقعت أحداثها في قرية مركبا، وردَّدها أبناؤها، وخلصوا فيها إلى عبارة تردَّدت على الألسنة، بوصفها خلاصة تجربة حياتيَّة، تمثِّل حكمة أو عبرة، أو مثلاً يُضرب لدى وقوع حدث شبيه بالحدث الذي أدَّى إلى صوغ العبارة/المثل.

يلاحظ قارئ هذه الحكايات والأمثال أن بعض أسماء شخصياتها حقيقيَّة، وأنَّ بعضها الآخر مستعار؛ وذكر الأسماء المستعارة يعود إلى أسباب، منها: 1- عدم معرفتنا الاسم الحقيقي. 2- عدم تأكُّدنا من الاسم الحقيقي. 3- عدم تأكُّدنا من قبول أبناء الشخصيَّة أو حفدته بذكر الاسم الحقيقي. فإن انتفت هذه الأسباب يمكن حذف الاسم المستعار وذكر الاسم الحقيقي، وذلك بعد اتصال صاحب العلاقة برئيس البلديَّة.

لا يخفى أنَّ حكايات أخرى كثيرة لم ندوِّنها هنا، وهذا يعود إلى عدم معرفتنا بها لا إلى سبب آخر. لذا، يرجى ممَّن يملك معرفة بأيِّ حكاية حقيقيَّة تنتهي إلى خلاصة تمثِّل مثلاً يُضرب، أن يزوِّد موقع البلدية بها، لتُكتب وتُدوَّن، وكذلك يرجى ممَّن يملك أي معلومة تاريخيَّة، جغرافيَّة، أدبيَّة، اجتماعيَّة الخ... أن يزوِّد موقع البلديَّة بها، إذ إنَّ لدى اللجنة الثقافيَّة في البلديَّة مشروعاً لتدوين ذاكرة قرية مركبا...

ومن لا يرغب في تزويد الموقع، يمكنه تقديم ما يعرفه مكتوباً على أوراق، بالفصحى أو بالعاميَّة. نرجو الاستجابة لهذه الدَّعوة، ونعدكم بأن نعتمد الاسم المستعار لمن يريد ذلك.

وقبل أن نبدأ برواية الحكايات نرى أن نقدِّم تعريفاً بالمثل، وعلاقته بالحكاية.

 

 

المثل وعلاقته بالحكاية

جاء في لسان العرب: "المثل هو: الشيء الذي يُضرب للشَّيء مثلاً، فيُجعل مثله...، وهو ما يُضرب من الأمثال، ومثل الشيء صفته، وقد يكون بمعنى العبرة"([1]). وجاء، في المعجم العربي الأساسي: المثل هو "جملة من القول مقتطعة من كلام، أو مرسلة بذاتها، تُنْقَل ممَّا وردت فيه إلى مُشابهة من دون تغيير، مثل: "الصَّيف ضيَّعتِ اللَّبن" و"الجار قبل الدَّار، والرفيق قبل الطريق..."([2])، ويُتَّخذ عِبرة ودرساً، وبهذا المعنى جاء في القرآن الكريم: ﴿وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل﴾. وقد وردت لفظة "مثل" في القرآن الكريم، ومن ذلك، فضلاً عمَّا ذكرناه، قبل قليل، نذكر: ﴿يا أيُّها النَّاس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له﴾.

في ضوء ما سبق، يمكن القول: المثل هو عبارة، أو جملة، مركَّزة، تتَّصف بجماليَّة أدبيَّة، وتؤدِّي دلالة حادثة طريفة، نادرة، وقعت وتناقلتها ألسن النَّاس، بوصفها حكاية تمثِّل خبرة إنسانيَّة، وخلصوا إلى صوغ تلك العبارة، أو الجملة، التي تستعيد تلك الحادثة، وتخبر عن دلالتها. وتطلق هذه العبارة، أو الجملة، أو تُضرب مثلاً، عندما يقوم شخص أو أكثر بفعل يشبه الفعل الذي حدث في تلك الحادثة التي استُخلص منها المثل.

وهكذا يُعدُّ المثل نتيجة لخبرة الناس واختباراتهم العمليَّة، في هذه الحياة، وخلاصة التجربة الإنسانيَّة، ولهذا يقال: "المثل نبيّ"، و"متى حضر المثل بطل الجدل"، وهو أبلغ وسائل التعبير، وخصوصاً لأنه يقترن بحكاية تؤكِّد صحَّة مضمونه، كما نرى في ذلك المثل الذي تخلص إليه حكاية "اللاَّقوطة"، أي المرأة التي تلقط السنابل وراء الحصَّاد، وتصنع منها شميلات، فقد سُئِلت عمَّا تفيدها هذه السنابل التي تلتقطها، فأجابت: "شْميلة عاشْميلة بتشبع العيلة"، ويُضرب هذا المثل لمن يواصل العمل، ويجمع ما يحصِّله، وإن كان قليلاً، فمع استمرار العمل تتمُّ تلبية حاجة الأسرة...، ومن الأمثلة المعروفة: "الكرسي بتْنَسِّي"، "لما بتفرغ جيوبو بتكثر عيوبو"، "كلمة بَتّ ولا عشرة لتّ"، "مطرح ما بترزق إلزق".

تسبق الحادثة المثل، ومن الأمثال ما لا يُفهم إلاَّ إن عُرِفَت حكايته، وهذا يعني أنَّه يعدُّ "إحدى خبرات الحياة التي تحدث كثيراً في أجيال متكرِّرة ممثلة لكل الحالات الأخرى المماثلة"([3]). وقد نكون غير بعيدين عن الصَّواب عندما نقول: إنَّ الأمثال المحليَّة هي من هذا النوع، أي النَّوع الذي ينبغي أن تعرف حكايته لتُفهم دلالته.

وفي ما يأتي ما جمعناه من الحكايات والأمثال المحليَّة (من ذاكرة قرية مركبا).

****

عصاها الخيَّال شجرة!

كنت، في صغري، أجالس كبار السِّن من أبناء قريتنا، على المصاطب أمام دكان والدي، الحاج حسين الحاج مصطفى زراقط (رحمه الله) الواقعة في وسط ساحة القرية. كان هؤلاء يحكون الكثير من الحكايات النَّادرة، حفظت بعضها، ونسيت معظمها. ذات مرَّة حكى الحاج علي محسن حموُّد حكاية كان هو بطلها...، وفي ما بعد كتبت هذه الحكاية من الذَّاكرة، ونشرتها... وها هي الحكاية:

ليس من أحدٍ في قريتنا يجهل الحاج علي، إنَّه ابنُ السبعين، مرَّتِ السنون عليه ولم تحنِ ظهرَهُ.

ذات عشيَّةٍ، طرق الحاج علي عرزالَنا بعصاه ودخلَ، فُوجِئنا بقدومه، ورحَّبنا به طويلاً، ومهَّدنا له صدرّ المجلس. جلس وأجالَ نظرَهُ فينا، وقال:

- الدُّنيا شبابٌ يا ابنائي، لكنِّي ما زلتُ أسهرُ وأسمرُ... أعرفُ شرطَكُم ولا أُريدكُم أن تراعوني، فأنا سيِّدُ مَن تحدَّث.

ضحكنا... ثمَّ صحنا بصوتٍ واحدٍ: نريدُ حكاية "عصا الخيَّال..." إذاً... فطالما تمنيَّنا سماعَها من فمِ بطلِها...

أغمضَ الحاج علي عينَيه قليلاً، وقالَ: أنا أحبُّكم، يا أبنائي ولن أخيبَ طلبَكُم.

في تلكَ الأيامِ، كنتُ فتى القريةِ الأوَّل، "القَيْمَةُ" التي أرفَعُها لم يكن أحدٌ يجرؤُ على الاقترابِ منها. والعصا التي ألوِّحُ بها لم يكن أدٌ يستطيعُ مواجهَتها... أيامٌ ليست كالأيَّام هذه، يا أبنائي!

ذات يومِ، جاء أبو عبد الله إليَّ مضطرباً، وهو يقول:

- لي عندَكَ طلبٌ، يا شيخ الشباب.

- تفضَّل، أطلب ما تشاء.

إنفرجت أساريرُه، وقال مبتسماً: أنت تعلمُ، يا عزيزي... غداً عرسُ ابني الكبيرِ، وأريدُك أن تكونَ على رأسِ الشَّباب، وفهمُك يكفي...

قلتُ: نحنُ لها، لا تَخفْ، يا بو عبد الله.

عاد المختارُ مطمئنَّاً، أما أنا فبدأتُ التفكيرَ...

لم يكنِ الأمرُ الذي طلبَهُ أبو عبد الله بسيطاً، يا أعزَّائي. فالعروس من القرية المجاورة...، وشبَّانُ القريةِ هذه كان عليهم أن يُواكبوا العروسَ، ويوصلوها سالمةً إلى بيتها الجديد. أما نحن، شبانُ قريةِ العريس، فكان علينا أن نخطفَ العروسَ إلى بيتها...

إنَّها عادةٌ قديمةٌ، عرفْتها قُرانا زَمناً، وكادتْ تزولُ.

وهكذا، كما تَرون، كان عليَّ أن أخطفَ العروسَ من بين حُماتِها، وهم شبانٌ شجعانٌ أقوياء...

أطلتُ التفكيرَ، ولم أَصِلْ إلى حلٍّ إلاَّ مع إطلالة الفجرِ النَّديَ.

سرتُ مع دفقاتِ النُّورِ الأولى، أشدُو والعصافير، وفرسي الحمراءُ الأصيلةُ تشكو شدَّةَ اللِّجامِ، وكأنَّها تريد مسابقةَ النَّسائم البليلة.

وصلتُ المكانَ الذي اخترتُه. وكمنتُ، ومعي عددٌ من الشبَّانِ، خلفَ تلَّةٍ ينبسطُ إلى جانِبِها كرمٌ منَ التين. كان حائطُ الكرمِ مهدَّماً. سقطت حجارتُه، وبدت جذورُ شجراتِ التينِ عاريةً مُشقَّقة...

نظرتُ إلى شجرةٍ ضخمةٍ تقبعُ أمامي، وابتسمت. فخطر لي أنَّها تشكو إليَّ قلَّةَ الناظرينَ إليها، بعدَ أن شاختْ، ولم تعدْ تُعطي ثمراً...

ولم تكَدِ الشَّمسُ تعلو في السماء حتى أطلَّ الموكبُ، زغاريدُ وحداء، دقُّ طبولٍ ونقْرُ درابِك. تأمَّلت الموكبَ، ولمحتُ الخيَّالة يحيطون بهِ من كل جانب، وبأيديهم ِ العصيُّ الغليظةُ...

وصلَ الموكبُ إلى منبسطٍ من الأرضِ يقعُ أمامي، فقلتُ: هيَّا، لقد جاء الوقتُ المناسبُ.

علوتُ متنَ "الحَمْرة"، فحمحَمتْ تتعجَّلني. أرخيتُ اللِّجامَ لها فانطلقَتْ...

سرتُ أشواطاً بها، وعدتُ فمررتُ من تحتِ الشجرةِ الضخمةِ بسرعةٍ جنونيَّة. تعلَّقتُ بالشجرةِ فهوَتْ عليَّ.

احتضنتُها، كما يحتضن العريس عروسَه، وطرتُ صوبَ الموكبِ السَّائر مطمئنَّاً في السَّهل أمامي كان الخيَّالة يُلوِّحون بعصيهِّم... لمحني أحدُهم، فصرخ برفاقهِ. التفتوا إليَّ وصاحوا:

- أيُّ رجلٍ هذا؟!

- يقتلعُ شجرةً ويحملُها...

- هيَّا اهربُوا، يا شباب...

تفرَّقَ الخيَّالةُ من حولِ "الهودج"، فرمستُ الشجرةَ بعيداً، وأمسكتُ زمامَ فرسِ العروسِ، وسرتُ أمامَ الموكِب أُلاعبُ "الحمرةَ"، وأشارك الآخرين الحداءَ الذي حلِيَ وطاب...

يا شمس، يلِّلي بسمَّا،

أنوارك بْتحيي النُّفوس،

لا تشرقي فوق الحما

عالأرض في عنَّا عروس..

وفي الأيام التوالي، تناقلتِ القرى حكاية الخيَّالِ الذي اقتلع الشجرةَ وحملَها... وقالوا: "عصا هاالخيال شجرة".

صمتَ الحاج علي، فقالَ أحدُ الجالسين:

- ليتَ أيامَكم تعودُ، فقد كانتْ أيامَ أفراحٍ وفُتُوّة...

فهزَّ الحاج علي رأسه، وتمتم: علوَّاه تعود...

وصار هذا القول يُرَدَّد عندما يستخدم شخص القوَّة الزَّائدة عن اللِّزوم.

****

لأرْدْ حسيب

كانَ حسيب بك السلمان ينتمي إلى آل السلمان، وهم فرع من أسرة آل علي الصغير التي كانت توكل إلى مشايخها "مَشْيخة" منطقة جبل عامل، منذ أيَّام المماليك والعثمانيين، وهي الأسرة نفسها التي ينتمي إليها آل الأسعد وآل التامر. وكان بين هذين الفرعين: الأسعد والتَّامر خصومة تعود إلى الخلاف الذي حدث بين علي بك الأسعد وابن عمِّه محمد بك الأسعد من جهة وتامر بك الحسين من جهة أخرى، في بداية حكم العثمانيين المباشر لجبل عامل.

كان حسيب بك من رجال آل الأسعد المقرَّبين، وخصوصاً من أحمد بك، وكان هؤلاء يقيمون في قرية "الطيبة"، مع أن آل السلمان كانوا، من حيث القرابة العائلية، أقرب إلى آل التامر منهم إلى آل الأسعد؛ إذ إن حسين، والد تامر، هو ابن سلمان جدّ آل السلمان...

تزوَّج حسيب بك زينب ابنة محمود بك الأسعد، المقيم في قصره في قرية "عديسة"، وهو شقيق كامل بك الأسعد الكبير وعبد اللطيف بك الأسعد والد أحمد بك الأسعد...

ولـمَّا كانت زينب الأسعد قد ورثت سهم والدها، المعروف بـ"سهم البيك"، في كثير من أرض مركبا، صار حسيب بك يتنقَّل في إقامته بين قرى "الطيبة" و"عديسة"، و"مركبا"، ثمَّ استقر في القرية الأخيرة، متفرِّغاً لإدارة أرضه، ولجلسات السمر والسَّهر مع وجوه القرية على البيادر وفي خيم الكروم ومضافات البيوت.

كان حسيب بك رجلاً قوياً، لطيف المعشر، يحب الحياة، لكن أحداث الحياة كانت قاسية معه، فتوالت الخسائر عليه، وكانت أولاها مقتل ابنه البكر: حسين، برصاص العصابات الصهيونية عام 1948.

ولـمَّا كثرت هذه الخسائر، صار يقابل كل واحدة منها بابتسامة ساخرة، ويقول، وهو ينفث دخان نارجيلته التي لم تكن تفارقه: "لَلْـ...لَلْأِرْد..." ثمَّ يردِّد هذا القول مرَّاتٍ متتالية، ويواصل نفث دخان نارجيلته التي لم تكن تكفُّ عن القرقرة المرافقة بضحكات البيك المتقطعة، وابتساماته المتتالية.

ولما تكرَّر هذا القول وانتشر وشاع بين أبناء القرية، صار الواحد منهم يردِّد عندما يصاب بخسارة لا يستطيع تعويضها: "لَأِرْد حسيب".

وهكذا صار هذا القول يُرَدَّد في القرية عندما تلاحق المرء الخسائر ولا يستطيع تعويضها، فييأس، ويهزأ بما يُصيبه منها.

****

"لَشَحْرك بِخلإينة بيت حسين حسن"

كانت قرية مركبا، منذ حوالى مئة وعشرين عاماً، عندما عاش فيها حسين حسن منذر (والد محمد حسين، (المختار) وأسعد والد نجيب) قرية صغيرة، وكان عدد سكانها لا يتجاوز عدة عائلات مالكة للأرض وعدد من الفلاَّحين والعمَّال، وكان الجميع بحاجة الى خلقينة لسلق البرغل، ويبدو أن حسين حسن منذر كان يملك واحدة يستخدمها أهل القرية لسلق البرغل، ولما كثر استخدامها تراكم عليها الشحار فصار يقال لمن يرتكب العمل الذي يستحق عقاباً كبيراً: "لشحرك بخلإينة بيت حسين حسن".

****

يْكَسِّر ديَّاتك يا عمشة

الحبّ هو اللي بِيْطيِّبها

كان سعيد (اسم مستعار) فلاَّحاً قويَّاً، دائم الابتسامة، طليَّ الحديث، وبقي هكذا مع تقدُّم العر، وعندما كان يُسأل عن ذلك كان يجيب: "حِبْ ونْحَبّ بتبقى شبّ". أحبَّ سعيد، أيام شبابه، زوجته عمشة، وأحبته هي، ومن حكايات حبِّهما تُروى الحكاية الآتية:

كان سعيد يعمل في حراثة أرض أحد كبار ملاكي الأرض، عبد الله. أحب عبد الله سعيداً، فكان يدعوه إلى مجالسته في المساء، وإلى تناول طعام العشاء على مائدته، وخصوصاً عندما تكون "الكبَّة" هي الطبق الرئيسي على المائدة.

كان سعيد يستطيب "الكبَّة" على مائدة عبد الله، فيحمد الله، بعد أن ينتهي من تناول الطَّعام، ويشكر معلِّمه وربَّة المنزل، ويستفيض في الحديث عن شؤون القرية، فيختار أطايب الأحداث، ويرويها بأسلوبه المشوِّق، فيمرُّ الوقت سريعاً، ولا يخرج الفلاَّح الشابُّ إلاَّ وضحكته تكرج أمامه...

وعندما يصبح وحيداً، تتربَّع عمشة في عينيه، تبتسم له ابتسامة ساحرة، فيفرح...، ثمَّ تنظر إليه معاتبة، ويبدو له أنَّه يسمع صوتها الملوَّن بالحزن:

- تضحك ولا عبالك... وأنا ناطرة...!

فيحث خطاه، ويردِّد: هانِت...، هانت...، أنت في العين والقلب... بعد أيَّام، بتصيري بالبيت كمان... هيي أيام... هانت...

ويواصل حثَّ خطاه، ويدور حول منزلها دوراتٍ عديدة هي زاد كل ليلة، ثمَّ يذهب إلى بيته، وهو يردِّد: هانت... هانت...

تزوَّج سعيد عمشة، فتغيَّرت أحواله مع عبد الله، فقليلاً ما صار يلبِّي دعوته إلى الطَّعام والسَّمر. وإن فعل ذلك، صار يهزُّ رأسه بعد تناول صحن الكبَّة، ويقول:

- يكسِّر ديَّاتك يا عمشة، كبتك ما أطيبها...!

فينظر إليه عبد الله متعجِّباً، ويقول له: وهاي الكبة شو ناقصها؟

فيقول: شو جاب لجاب... كبة عمشة ما في أطيب منها بالكون!

تكرَّر الأمر، فكَّر عبد الله في تدبير، ونفَّذه، إذ أحضر، ذات ليلة، عمشة سرَّاً، وطلب منها أن تجبل هي "الكبَّة". ولما فعلت ذلك طلب، من سعيد أن يشاركه تناول الطَّعام، فلبَّى سعيد طلبه، وما إن انتهى حتى ردَّد قوله المعتاد: يكسِّر دياتك، يا عمشة... فنادى عبد الله عمشة، وقال لسعيد: هاي عمشة، وهاي الكبَّة... هيي جبلتها...

تأمل سعيد عمشة التي بدت مرتبكة، وابتسم، وراح يهزُّ رأسه، ثمَّ عرضت ابتسامته، وقال: كبة عمشة إلي غير كبَّة عمشة إلك.

فسأله عبد الله بصوتٍ عالٍ: ولم؟!

فقال سعيد: كبة عمشة إلي مجبولة بشي ما حدا بيعرفو إلاَّ اللي ذاقو...

صمت لحظة، وأضاف: كبة عمشة إلي مجبولة بالحب... الحب هو اللي بيطيبها يا ناس... ثمَّ تقدَّم من عمشة، وأمسك يديها برفق، وقال:

- "يكسِّر دياتك يا عمشة كبَّتك ما أطيبها"...

وخرج هو وزوجته، وهما يضحكان...

تداول أهل القرية الحكاية، وصار قول سعيد يتردَّد كلما انجز عمل وأتقن بحبٍّ إنجازه...

****

تِضْربها شْمال تجي يمين

نيالك يا ماسك الغربال

كان النَّوَر يأتون إلى القرية، ويخيِّمون على البيادر، وكان مجيئهم يغيِّر رتابة أيَّام القرية، فيأتي الشَّباب، عند العصارى، لتقرأ صبابا النَّور الطَّالع لهم، ويأتي بعض الفلاَّحين ليشتروا الغرابيل والمسارد والمناخل وأشياء أخرى يحتاجون إليها، ويجيد النَّور صناعتها. وتقصد نسوة النَّور البيوت يبعن الخواتم المعدنيَّة والأساور والحلي وأشياء أخرى...، أو يقرأن الطَّالع...

وفي اللَّيل، يوقد النَّور النَّار أمام خيمهم، ويأتي شباب القرية إلى المخيَّم الصغير، ويحلو السَّهر، ويطول: عزف ربابة يرافقه غناء ورقص، وتتبعه أحاديث سمر وشرب قهوة مرَّة وقراءة الفنجان...

ذات مرَّة، قدمت إلى القرية جماعة نَوَر، وخيَّمت على البيادر كالعادة... وفي المساء جاء الشباب، وحلي السَّهر، وكانت نجمة السهرة نورية سمراء، نجلاء، طويلة، هيفاء، رشيقة...، أُعجب الجميع بها، وسمُّوها "الجميلة"، وظلُّوا يلاحقونها بعيونهم إن رقصت أو مشت أو جلست...

كان عبد الرسول عطوي واحداً من هؤلاء الشباب، وكان متميِّزاً بحبِّه للمزاح واعتداده الشديد بنفسه. حاول عبد الرسول، منذ أن رأى "الجميلة"، التقرُّب منها والاستئثار باهتمامها، لكنَّها كانت تتقرَّب وتتهرَّب... تضحك وتغضب...، تعد ولا تفي...، فتعلَّق بها، وظل يواصل زياراته ومحاولاته، لكنَّها ظلَّت تتقرَّب... وتتهرَّب... وتواصل هذا السلوك مع الجميع، فغضب منها، وقرَّر:

- والله، لَشَوْفِك الويل، يا بنت النَّور!.

فكَّر طويلاً في الأمر، ولم يصل إلى قرار، وذات ليلة، زار المخيَّم، فلم يجدها. سأل أمَّها عنها، فقالت له: "طَمَّست"، يا ويلي عليها وعلى عينيها!

فتمتم: جاءت الفرصة، والله لبكِّيكي وبكِّيها...

تظاهر بالاهتمام الشديد، وقال لأمِّها: اذهبي في صباح الغد، واشتري لها جنزارة من دكانة أحمد الشيخ محمود، ودقِّيها، وامسحي عينيها بها...

لم تكن الأم تعرف أن "الجنزارة" تؤذي العينين، ففعلت، في اليوم التالي، ما وصفه عبد الرَّسول لها.

توقَّع عبد الرسول أن يجنَّ جنون النَّور عندما يشتدُّ مرض عيني جميلتهم، لكنَّه فوجئ بوجوههم يأتون لزيارته في غرفته، ليشكروه، ويقدِّموا له غربالاً جديداً، أجادوا صناعته، فوضعه جانباً، وهو يضحك، ويصفِّق بكفيه، ويفتلهما، ويردِّد: تضْربها شمال تجي يمين... تضربها شمال تجي يمين...

وكانت المفاجأة الثانية لعبة طريفة، فبعد أن غادر وجوه النَّور غرفته، جاء أولاد الحيِّ يصرخون...، كان كل واحد منهم يطلب استعارة الغربال الجديد.

كان عبد الرَّسول لا يزال يضحك ويصفِّق...، ولما سمع صراخ الأولاد، قهقه ونهض، وقال للأولاد:

- تعالوا، والحقوا بي... تعالوا نلعب لعبةً حلوة... أنا سأركض وأدحرج الغربال، ومن يمسكُ الغربال أولاً يأخذه...

هرول عبد الرسول صوب البيادر، وراح يضرب الغربال ويدحرجه أمامه، شمالاً ويميناً، ويقول: تضربها شمال تجي يمين...

لحق الأولاد به، وهم يصرخون:

- نيّالك يا ماسك الغربال.

****

تْنَامُوا على عقارب

كلُّ المصايب بِتْهُون عند عقارب عبد الرَّسول

مرَّت مدَّة من الزَّمن كان كثير من أبناء القرية فيها يفتِّشون عن المغاور المغلقة، ويفتحونها، ويأخذون ما يجدونه فيها. وكانت بعض المغاور تحتوي، إضافة إلى بعض الآثار من زجاجيات ومدافن، على نقود معدنية، منها نقود ذهبيَّة وفضيَّة صُكَّت في زمن الدولة العثمانيَّة.

وهذا يعني أمرين: أوَّلهما أنَّ سكان القرية، في هذه الآونة، كانوا حديثي العهد بالسَّكن فيها، كما استنتجنا في دراستنا عن تاريخ القرية، وثانيهما أن سكَّان القرية الذين كانوا يسكنونها قبل أن يهجِّرهم اجتياح الجزَّار تركوا بعض ما يملكونه من نقود معدنية في أماكن ظنُّوا أنَّها أمينة، متوقَّعين أن يعودوا بعد مدَّة قصيرة، ويأخذوا ما تركوه. لكنَّ الزمن طال، ولم تتح الظروف السياسيَّة والعسكرية العودة الجماعيَّة، فعاد بعضهم خلسة وأخذ ما تركه، ولم يعد بعضهم الآخر، فبقي ما تركه ليأتي سكَّان القرية الجدد، ليعثروا عليه في المغاور والجدران الحجريَّة.

وقد جعلت التجارب بعض أبناء القرية خبراء في فتح المغاور والبحث فيها، فكان هؤلاء يخرجون ليلاً ليدخلوا المغاور، ويعودوا بما يجدونه فيها، وكثيراً ما كانوا يعودون بـ"خُفَّي حنين".

وكان من هؤلاء الذين يخرجون ليلاً الجارين: محمد سعيد الصبَّاغ ومحمود قاسم الأشقر، وكان هذان الرجلان من رجالات القرية المتميزين آنذاك، فكان أولهما مضيافاً، لطيف المعشر، حلو الحديث، يكثر زوَّاره، فيجلسهم في حديقة منزله المغروسة بأشجار الرُّمان والتِّين والعنب؛ حيث تعقد مجالس السمر و"الَّنَّرْجلة" وتناول الفواكه. وكان ثانيهما مثقفاً، ينظم الشعر ويقرأ مجالس العزاء... ويجيد الحديث...

وكان عبد الرَّسول من روَّاد مجلس الرجلين، فعرف أنَّهما يخرجان عندما ينفضُّ المجلس، ولا يعودان إلاَّ في وقتٍ متأخِّر في الليل، فراح يراقبهما، وعندما تأكَّد أنَّهما يبحثان عن المغاور وفيها، طلب منهما أن يرافقهما، فأنكرا قيامهما بما نسبه إليهما، ثمَّ صارا يتهرَّبان منه، فظلَّ يراقبهما، وقد قرَّر أمراً لا عودة عنه:

- إمَّا أن أشاركهما أو أذيقهما من الوجع ما لم يذوقاه أبداً.

عاد يطلب مرافقتهما، فأصرَّا على الإنكار، فذهب إلى "طَحْمُوش"، وهو قطعة أرض تكثر فيها العقارب، وعبَّأ علبتي كبريت فارغتين بالعقارب...، ووضعهما في جيبه، وانتظر الفرصة المناسبة...

ظلَّ يراقبهما، وفي أحد الأيام، شعر بأنهما سيخرجان إلى إحدى المغاور، فقصد مجلسهما وجلس مع الجالسين، وشارك في الأحاديث التي دارت. ولما غادر الزوَّار المجلس، بقي هو جالساً، ينظر إليهما ويبتسم، وهو يلاعب علبتي الكبريت، ويتمتم: الليلة بتذوقوا طعمة عقارب "طحموش".

احتار الرجلان في ما يفعلانه بهذا الرجل الذي لا يفارقهما، وهما لا يريدان اصطحابه. ثم اهتديا، من طريق الإشارة، إلى التظاهر بالنوم لعله يخرج، فأغمض كلٌ منهما عينيه و"دَنْدَل" رأسه حتى صار عند صدره، فبانت رقبته...

ابتسم عبد الرسول حتى بانت أضراسه، وتمتم: هالحيلة ما بتمرأ على عبد الرسول! ونهض، وأفرغ ما في علبة الكبريت الأولى على رقبة محمد سعيد، وما في علبة الكبريت الثانية على رقبة محمود الأشقر، وخرج، وهو يضحك ويقول:

- تْنَاموا على عقارب...

وسرعان ما علا صراخ الرجلين...

ظلاَّ يتألمان طوال الليل، ولم يتركا وسيلة إلاَّ واستخدماها لتخفيف الألم!

وفي اليوم التالي، كان كل واحد منهما يضع يده على رقبته، ويقول كأنَّه يحلف:

- والله، كل المصايب بتهون عند عقارب عبد الرَّسول...

هالضِّحكة ضحكة بو حسين، بَسْ هالطربوش واللِّحية منين!؟

روى أبو حسين، الحاج علي محمد الحاج حسن حيدر، قال:

كنَّا مجموعة أصدقاء، نجلس في أوقات الفراغ في مجالس سمر، ونسهر معاً، فنتحدَّث في أمور كثيرة، ومتنوِّعة، يختلط فيها الجدُّ بالمزاح، وترتفع الأصوات، في الغالب، لتعلو على صوت "وابور الكاز" الذي تهدر ناره تحت إبريق شاي كبير يحتضن إبريق شاي صغير...، يتخمَّر فيه الشاي على مهل...

ذات سهرةٍ، دار الحديث عن "المقالب"، ومن وقع فيها، ومن لم يقع، فتحمَّس أحد الأصدقاء، وادَّعى أنَّه لم يقع في أيِّ "مقلب"، ولن يقع، ولا يستطيع أحد أن يوقعه مهما كان ذكيَّاً. ولا أُنكر أنِّي ادَّعيت الأمر نفسه، فتبادل الأصدقاء النظرات، والإشارات...، ثمَّ انتقل الحديث إلى شأن آخر. لكنَّ الأصدقاء كانوا قد بيَّنوا أمراً، عرفته في ما بعد، وهو أن يوقعونا معاً في مقلب واحد.

كنَّا نعلم أنَّ أحد أقارب صديقنا، وهو رجل متديِّن يرى من واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كان يحثُّه على أداء فريضة الحج هو وزوجته، وإن لم يكن في استطاعته ذلك، فليحجُّ وحده...، ثمَّ تحجُّ زوجته عندما تتهيأ الاستطاعة.

تذكَّرنا هذا الأمر عندما اجتمعنا في عصر اليوم التالي، ولم يكن صديقنا معنا، واتفقنا على أن نوقعه في "مقلب"، يوفِّر لنا مادَّة تندُّر دسمة.

اتفقنا على أن يزوره "معرِّف" ليقنعه بأداء فريضة الحج، ويتَّفق وإياه على تفاصيل القيام بها، واختاروني أنا لأداء دور هذا المعرِّف. وافقت، ووعدنا أنفسنا بسهرة ضحك طويلة...

بدأنا تحضير العدَّة. استعرنا طربوشاً عتيقاً، ولففنا عليه خرقة خضراء، وأحضر لنا صديق يقيم في بيروت لحية اصطناعية، يختلط شعرها البيض بشعرها الأسود، وأحضرنا "دشداشة" مقلَّمة وعكَّازاً...

ارتديت "الدشداشة" المقلَّمة، ولصقت اللحية، ولبست الطربوش، وحملت العكَّازة، وبدأت أمشي، وأعرج، وأبسمل وأحوقل....

كان الأصدقاء يضحكون، وتعلو ضحكاتهم. عجبت للأمر، ولكن عندما وقفت أمام المرآة، ضحكت، وسألت: من هذا الشيخ الشائب؟

توقَّف الضَّحك، وبدأ الجدُّ. كنَّا جميعاً مطمئنين إلى أن "المقلب" سيكون ناجحاً، وقلنا: سيقع في الفخ...، وهناك سيكون الضحك!

قصدت منزل الصَّديق، عند العصر، وقلت للأصدقاء:

- تلحقون بي ، بعد قليل.

عندما وصلت إلى منزل الصديق، دَقَقْت الباب بطرف العكَّازة، وصحت:

- يا الله... يا الله.. يا أهل الدَّار...

لم يجب أحد، فاقتربت من الباب. سمعت صوت نسوة يتحدَّثن، فصحت بصوتٍ عالٍ:

- احتشمن، يا نسوة، واخلين الطريق لفضيلة الشيخ...

ورحت أمسِّد لحيتي، وابتسم.

خفتت الأصوات، وسمعت صوت النِّسوة يتدافعن، ليخرجن من الباب الآخر. ثمَّ سمعت صوت زوجة صديقنا. كانت تقول: تفضَّل فضيلة الشيخ...

دخلت، ونظرت إليها، فرأيتها تنظر إليَّ بعجب كأنَّها تقول:

- شو جايب هالشيخ الغريب لعنَّا!؟

أطالت النظر، فعاجلتها بالقول:

- أظنُّ... بل اعتقد... أنك زوجة ربِّ هذا المنزل.

فقالت: أي والله، يا شيخنا... تفضَّل... تفضَّل...

قلت لها بصوتٍ عالٍ: أين زوجك؟

قالت: خير إن شاء الله، شو بدَّك منّو!؟

قلت: قالوا لي إنَّه يريد أداء فريضة الحج، وسيصطحبك معه، أبشري يا حرمة.

قلبت كفَّيها وشفتيها، وعركت عينيها، وردَّدت:

- الحج...! زوجي...! أنا...!

قلت: لا تستغربي، يا حرمة... اعتقد، والله أعلم، أن زوجك صار من أولياء الله...

ولم أدرِ كيف أفلتت ضحكة مني...، ثمَّ طالت ضحكتي، وعلت...، فجاء صديقنا مهرولاً، أمسك الطربوش بيد واللحية بيد، وقال، وهو يشاركني الضحك:

- هالضِّحكة ضحكة بو حسين... بس ها الِّلحية والطربوش منين!؟

قال هذا، وراح يضغط الطربوش على رأسي، ويشدُّ شعرات اللحية على مهل، ويقهقه...

لم أدرِ ما افعل، وفوجئت بالضحكات تعلو من خلفي، فإذا بالأصدقاء يدخلون، ويضحكون، ويردِّدون:

- هالضِّحكة ضحكة بو حسين...

بس هالطربوش واللحية منين

اشتريتن ولا جبتن بالدَّين

هالضحكة ضحكة بو حسين...

****

... والنَّار اللِّي بِيْصَدْري مين بيطفيِّها!؟

كان الشيخ محمود قاسم الأشقر قارئ عزاءٍ مجيداً، وكان ينظم الشِّعر فكاهةً وتَندُّراً، وفي شؤون حياته، وفي بعض أحداث قريته، وهي أحداث حياة عاديَّة رتيبة، كرثاء أحد الوجهاء أو الشباب، أو التهنئة بزواج أو مولود..، وللأسف فإن شعره فقد، أو أن من يملكون أوراقه يحتفظون بها لأنفسهم، لذا، نرجو من أبنائه وأحفاده أن يزوِّدونا بما يملكونه، لننشره، ونقوم بدراسته.

لم يكن الشيخ محمود يملك من الأرض سوى قطعة صغيرة، تقع في أعلى تلَّةٍ تشرف على مناطق واسعة من الأرض؛ وعلى مناظر جميلة وخصوصاً في الربيع...، كانت الطيور تغرِّد فيها، في أعشاشها، فيطرب الشيخ محمود، ويردِّد: صدق من سمَّاكِ، يا جنتي الصغيرة "أم المواكر"، فالوكر عشّ الطائر، وها هي الأعشاش والطيور تملأ غصون أشجارك الوارفة...

كان الشيخ محمود يمضي بعض أوقاته في مجالس الأصدقاء، وفي فتح المغاور كما يقال، ومعظمها في القراءة والكتابة والتأمُّل...، وكثيراً ما كان يفعل ذلك في ركنٍ سوَّاه لجلساته في هذه القطعة الصغيرة من الأرض التي سمَّاها "جنَّتي".

كان يخرج في الصَّباح، وهو يحمل بيد كتاباً وأوراقاً، وبيد قليلاً من السكَّر والشاي وإبريق ماء. وعندما يصل إلى مجلسه المعتاد يجمع بعض العيدان والأوراق اليابسة، ويشعل ناراً في موقد صنعها من الحجارة، ويعدُّ الشاي، ويرشف كؤوس السائل الأحمر، ويقرأ، أو يكتب، أو يتأمَّل...، مطمئن البال إلى وحدته التي كان يأنس بها، ويرتاح ممَّن كان يسميِّهم "الثقلاء" الذين كان لا يطيق لهم حضوراً ولا ظلاً...، فيتهرَّب منهم دائماً، ولكن بعضهم كان يلاحقه، و"يخرب عليه عيشته" كما كان يقول.

ذات صباحٍ، كان الشيخ محمود ينقل خطاه المتمهِّلة صوب مجلسه الأثير، وهو يدندن أبياتاً من الشعر...

لاحظ أنَّ واحداً ممَّن كان يسميهم "الثقلاء" يقف في زاوية أحد الأبنية، قرب "المرمغونة"، ويتابعه بنظراته. ثمَّ رآه يتحرَّك، ويتجَّه نحوه، ويتقدَّم منه... وفوجئ به يعترض طريقه، ويلقي عليه السَّلام، ويقول له:

- والله، أنا ناطرك من زمان...، لن تفلت مني اليوم. حابب إشرب شاي معك، وإسمع شعر و...

لم يتلفت الشيخ محمود للرَّجل، وحثَّ الخطى، وهو يتمتم:

- لا حول ولا قوة إلاَّ بالله...، وأعوذ بالله من معاشرة الأخشان...

قفز الرَّجل، وقطع عليه الطريق، وهو يقول: لن تفلت منِّي هذه المرَّة مهما فعلت...

حاد الشيخ محمود من طريقه، ونظر إليه بطرف عينه، وقال له:

- خاب ظنُّك، أنا رايح عا بني حيَّان.

قال الرَّجل: بروح معك. لن تفلت مني اليوم، كما قلت لك.

صرخ الشيخ به: حِلْ عنِّي، أنا رايح إقرا تعزيا.

قال الشيخ هذا، ومضى في الطريق التي تؤدِّي الى بني حيَّان. واصل السَّير في هذه الطريق مدَّة، وكان يكثر الالتفات إلى الوراء. ولما اطمأنَّ إلى أنَّ الرَّجل لا يلحق به، انحرف، ومضى في طريق أخرى توصله إلى حيث يريد.

ولما وصل، كان تعباً. استراح قليلاً. جمع الحطب والعيدان وورق الشجر. أشعل النار. ملأ إبريق الشاي الصغير ماءً. وضعه على النَّار. ولما غلى الماء، وضع حفنةً من الشاي الصغيرة في الإبريق، ونقله إلى جانبه، وغطَّاه بخرقةٍ كان يحتفظ بها ليختمر، وجلس مسنداً ظهره إلى جذع شجرة كانت العصافير تتنقل على أغصانها وتغرِّد، وراح يكمل دندنة أبيات قصيدة كان قد بدأ في نظمها.

وفوجئ بصوتٍ عالٍ آتٍ من خلفه، يخرق أذنيه:

- فكرك ضحكت عليِّي... عابني حيان وقراية تِعْزا وابريق المي و...

قفز الشيخ كمن لدغته أفعى. رأى الرَّجل يقترب منه، وهو يردِّد:

- لقطتك... يا عيب الشُّوم، بتهرب منِّي يا...

لم يسمع الشيخ الكلمة الأخيرة، ولم يشعر إلاَّ ورجله تمتدُّ وتركل إبريق الشَّاي، فتدحرج صوب النار، وماء الشاي ينزل منه. ولما وصل الماء إلى النَّار، علا الدُّخان، فقال الرجل:

- هيك بيعملوا، يا شيخنا... دلقت الشاي، وطفَّيت النَّار.

كوَّر الشَّيخ قبضته، وأشار إلى النَّار التي كانت تنطفئ، والدُّخان يعلو منه، وقال: هاي النَّار طَفَّيتها...

ودقَّ صدره دقَّات متتاليات، وهو يقول:

- بسّ النار اللي هون مين بيطفِّيها؟

قال الرَّجل: ولا يهم شيخنا... أنا بشْعِّلها...

هرول الشَّيخ مبتعداً، وهو يردِّد:

- لا... لا...، بيكفِّي النَّار اللي عم اشتعل فيها...

****

ألف مرَّة مشتريه ولا مرَّة سارقه

كان وقت الظَّهيرة في يومٍ من أيَّام آب اللهَّاب. كانت الشمس تُلْهِب دروب القرية وساحتها، وكان رجل يعتمر كوفيَّة وعقالاً مائلاً، ويرتدي شروالاً أسود، يمشي بخطىً واسعة، ويصرخ:

- كان لازم كتِّبه ورقة، وشهِّد عليها شهود...، النَّاس ما عاد عندا أمان في هالزَّمان...

مرَّ بالسَّاحة، ومن أمام دكَّان الحاج حسين الحاج مصطفى زراقط، ولم يلقِ السَّلام على الناس المتجمِّعين على "البرندا"؛ حيث كان اللحم يتدلَّى، والكانون تتوقَّد جمراته، تحت أسياخ من اللحم فاحت رائحتها، وتعالى دخانها.

كان الحاج أحمد رشيد شحيمي يتابع حركات الرَّجل، ويصغي إلى صراخه، فتمتم:

- هذا أكيد صاير معو قصَّة... بدِّي إعرفها... لازم إعرفها...

فناداه، ولم يكن قد ابتعد كثيراً:

- شو القصَّة يا حاج!!؟ شو صاير معك يا حاج!؟

التفت الرَّجل، فأضاف الحاج أحمد، وهو يخطو نحوه على مهل:

- شو القصَّة... هيأتك زعلان!

صاح الرجل: زعلان وبَس!؟ أيوه زعلان ومكتِّر من هالبلد...

ضحك الحاج، وقال: طيِّب، قول السَّلام عليكم، واحكي زعلان من مين بها البلد...

قاطعه الرَّجل، وهو يقترب من النَّاس الذين كانوا يتابعون الحوار:

- هيدي بلد ما... ما...، بلا ما نقول أحسن.

أقبل عدد من الرِّجال عليه، وقال له الحاج حسين الحاج مصطفى:

- معك حق، بلا ما نقول أحسن. بالأوَّل أهلاً وسهلاً فيك... الوقت وقت غدا، وهيئتك مشوِّب...، تفضَّل بَوْرد، ونقِّي اللحمة اللي بتعجبك تانشويهالك، وبعدين بتقول لنا من شو زعلان.

اقترب الرَّجل أكثر، وقال:

- البلد اللي ما فيها أمانة زادها ما بيتَّاكل...

كان الرَّجل على مقربة من "البرندا"، فقدَّم له الحاج حسين كرسياً، فجلس وهو يمسح العرق عن جبينه ويلهث. جرَّ الحاج حسين كرسياً آخر، وجلس إلى جانب الرجل الذي كان لا يزال مقطَّب الجبين مزموم الشفتين، وقال له، هو يبتسم:

- شو القصَّة يا حج؟

قال الرَّجل: القصة بسيطة، لكن ما حدا قدر يحلَّها...

قال الحاج حسين: خبِّرنا ياها بلكي بنحلها.

قال الرجل: المختار والسيِّد و... ما قدروا يقنعوه... معنِّد...، يا خيِّي معنِّد..

قال الحاج حسين: طيِّب خبِّرنا شو...

تدخَّل الحاج أحمد رشيد، وهو يضحك: شو رح تخسر إذا خبَّرتنا أنت وعم تاكل...

قفز الرجل عن كرسيه، وصاح: والله، ما بشرب، وما باكل بهالبلد قبل ما تنحل قصَّتي... أنا مش نصَّاب... أنا صاحب حق، وبدِّي ياه...

قال كثير من الجالسين: هوِّنها يا رجل، وخبِّرنا بلكي بنحلّها...

وقال له الحاج حسين، وهو يقرِّب رأسه من أذنيه كأنَّه يهمس له:

- صار لازم تخبِّرنا بسرعة... نحنا بيهمنا الموضوع...

وقال الجميع بصوتٍ واحد: خبِّرنا يا زلمي، عالقليلة بتفشِّ خلقك...

أجال الرَّجل نظراته في الحاضرين، وقال، وهو يهزُّ رأسه:

- صحيح...، أنا بدِّي ناس احكيلهم قصتي... أنا بدِّي فشّ خلقي...

صمت لحظة، وأضاف: القصَّة بسيطة، اشترى مني الجمل في أوَّل الموسم، وقال: في آخر الموسم أدفع لك ثمنه، وها هو آخر الموسم جاء، ولـمَّا جئت أطالبه بثمن الجمل، أنكر أنَّه اشترى الجمل منِّي...

ونهض الرَّجل فجأة، وصاح، وهو يشير بيديه إلى صدره: ... وأنكر، يا ناس، أنَّه يعرفني... وأنَّه رآني...

- شو!؟... شو...!؟ سأل الكثيرون.

جلس الرَّجل، وأضاف: عندما أنكر سألته، وأنا أشير إلى الجمل الرَّابض أمامنا: من اين لك هذا الجمل؟ فأجاب:

- الجمل جملي...ـ أنا لم اشتره منك...

ثمَّ وقف وصاح بي: إذا معك ورقة تثبت دعواك فرجيني عليها...، هات، هات الورقة تاقول إني اشتريت هذا الجمل منك... ولما ألححت قال: حل عني ما إلك عندي شي.

ابتسم الحاج حسين، وقال للرجل:

- إبق هنا، وبعد ساعة، أو أقل، يكون صاحبك هنا، ويعترف بأنه اشترى الجمل منك.

ابتسم الرَّجل، وعرضت ابتسامته، وسأل: كيف!؟

لم يجبه أحد، كان الحاج حسين قد مضى قاصداً منزل صاحب الجمل، فتمتم بكلام، وهو يهز رأسه، ويعضُّ شفته بقسوة.

توجَّه الحاج حسين إلى منزل صاحب الجمل، ولم تمض ساعة حتى عاد وإيَّاه، وما إن وصلا حتى أسرع صاحب الجمل، ووقف أمام الرَّجل، وسأله بصوتٍ عالٍ:

- أنا... أنا...، أنا سرقت الجمل أو اشتريته منك؟

وقف الرَّجل، ونظر إلى مخاطبه مدهوشاً، فأضاف هذا:

- ما بيكفِّي إنك مش صابر حتى لمّ أجرة "الرجيدة" واعطيك حقَّك، حتى تتهمني بالسَّرقة!؟

- سأل الرَّجل بسرعة: سرقة!؟ سرقة شو!؟

قال صاحب الجمل: سرقة الجمل، مش عارف شو قلت!؟

قال الرجل: ومين قال إنِّي اتهمتك بسرقة الجمل؟

قال صاحب الجمل، وهو يشير إلى الحاج حسين بيد، وإلى الناس المتجمعين بيد:

- هيدا الحاج حسين بيقول إنَّك قلت إني سرقت الجمل، أمام هؤلاء الناس جميعاً...

ضرب الرَّجل جبهته بكفه، وضحك، وهو يقول لنفسه: فهمت! ثمَّ قال بصوت عالٍ:

- صحيح أنت سرقت جملي... أنت...

أسرع صاحب الجمل، ووضع كفه اليسرى على فم الرَّجل، ورفع يده اليمنى، وصاح:

- اشهدوا، يا ناس، أنا اشتريت الجمل من هذا الرجل، ووعدته بأن أدفع له ثمنه بعد أن أجمع أجرة الرجيدة... وما زلت عند وعدي، لكنه لم يصبر علي حتى...

قفز الرجل يعانق الحاج حسين، ويقول: كيف لم تخطر في بالي هذه الفكرة!؟ من أين يأتي بالجمل إن لم يشتره!؟

والتفت إلى غريمه يسأله: طالما اعترفت بشراء الجمل...، أنا سأصبر إلى ان تأتي إلى منزلي، وتدفع لي ثمنه...

تجمَّع الناس حول صاحب الجمل، وراحوا يسألونه ضاحكين:

- هل تقر بأنك اشتريت الجمل من هذا الرَّجل؟ هل تقر...؟

فصاح: أقرّ... أقرّ... ألف مرَّة مشتريه ولا مرَّة سارقه!

****

ما دام هَيْك، حوربوا وطبلوا وزمروا...

واقهروا بو جميل كمان

كان الحاج محمود رشيد شحيمي (أبو يوسف) رجلاً مرحاً، ظريفاً، يقتني كتباً ويقرأها، ويحفظ الكثير من الطَّرائف والنَّوادر، ويجيد روايتها، ويحفظ أيضاً الكثير من الشعر الشعبي: الحَوْرَبات، الميجانا والعتابا، والزَّجل والأغاني، ويجيد إلقاءها... كما كان يجيد الدقّ على الطَّبل، ويروى أنَّه يحمله ويدق عليه لدى ذهاب أهل القرية إلى الحفلات التي كان يقيمها البيك في دار الطيبة.

توفِّيت زوجته الأولى، فصاحب مجموعةً من شباب القرية، من الجيل التالي لجيله، وكانوا من العزَّاب الذين يعملون في الأرض، ويمضون أوقات فراغهم، في العصاري وسهرات الليالي، في جلسات تسلية وترفيه تُروى فيها النَّوادر والطَّرائف، ويُلقى فيها الزَّجل، وتُغنَّى الأغاني، وتُنشد الحوربات وتُروى حكايات الحبِّ، وتُدبَّر العرائس والمقالب...

عندما انضمَّ أبو يوسف إلى هذه المجموعة، غدت أكثر حيويَّة ونشاطاً، ورأى كثيرون أنَّه لا بدَّ من تطوير جلسات التسلية، فتقرَّر أن يحصلوا على أدوات ما كان يُسمَّى "الهيئة" من طبل وصنوج ودفوف... وكانت هذه الأدوات تُودع في بيت الحاج عبد علي بيضون، وكان يسكن، آنذاك، في بيتٍ قريب من بيت الحاج أسعد قشمر، ثمَّ بنى بيته المعروف، في ما بعد، في أوَّل القرية من جهة الشرق.

قصد الشباب بيت الحاج عبد علي، وكان غائباً، وأقنعوا زوجته بأن البيك سيقيم حفلة كبيرة وبأن عليهم أن يتمرَّنوا...، ولهذا عليها أن تعيرهم الطبل والصُّنوج والدفوف...، فأخذوها، وبدأوا يقيمون سهراتهم على البيادر وفي الكروم، يحوربون، ويغنُّون، ويطبِّلون ويزمِّرون.

ولما صاروا يطيلون سهراتهم، تضايق منهم الجيران. ولـمَّا صاروا يتأخَّرون عن العمل، انزعج أهلهم، وراح كثير من الناس يتحدَّثون في الأمر، ويبحثون عن حل.

نصحهم أناس، هدَّدهم آخرون، ولم يجدِ ذلك شيئاً. وعندما لم تُجْدِ الوسائل المحليَّة في الإقناع، ولم يتدخَّل "أوادم" البلد بحزم احتار الناس في ما يفعلون.

قال بعض وجوه القرية: دعوهم... هؤلاء الشباب يفرحون ويفرحوننا، يغيِّرون جوَّ التعتير الذي نعيش فيه...

قال المتضايقون: بدنا نتشكَّى للبيك...

وذهبوا إلى وكيل المختار، آنذاك، الحاج خليل الحاج حسين صيداوي (الخليل)، وطلبوا منه أن يوصل الأمر للبيك.

ذهب الحاج خليل إلى أحمد بيك يشكو الشباب اللاَّهين الذين يقلقون راحة الناس بحفلاتهم التي لا تنقطع، والناس عندها أشغال كثيرة، وهؤلاء الشباب يمنعون عنهم النوم، كما أن "أوادم" البلد لا يقومون بواجبهم في التصدِّي لهم، لذا لم يبق إلا جناب "البيك" ليتدخَّل، ويضع حدَّاً لهذه المهزلة...

كان "البيك" يتدخَّل في معظم أمور أبناء القرى التَّابعة للدَّائرة التي يمثِّلها، والتي كانت تشكِّل إقطاعة لأسرته منذ قديم الزَّمان. ولـمَّا سمع الشكوى غضب، وأرسل يستدعي "أوادم" القرية والشباب الذين رُفعت الشكوى ضدَّهم.

خاف الشباب، وقلق وجوه القرية، وطُرح السُّؤال: ماذا نفعل لنُرضي البيك؟

جاء أبو يوسف، ومعه بعض الشباب إلى أحد وجوه القرية الذين استدعاهم "البيك"، وهو الحاج مصطفى أمين زراقط، وطلبوا منه أن يتدبَّر الأمر بما عُرف عنه من حسن تدبير، وقال أبو يوسف له:

- يا بن خالي...، ما إلنا غيرك...، إنَّنا كما تعلم نلهو لهواً بريئاً، ونتسلَّى، ونحاول أن نفرح قليلاً، وأن نشيع جوَّ الفرح لساعات من عمر كله تعب وشقى والبيك بحبَّك...، وهوي طالبنا...

وقال الجميع بصوتٍ واحد: وإذا ما عملنا هيك كيف بنفرِّج همومنا؟

ابتسم الحاج مصطفى، وقال: بتتدبَّر...

ثمَّ ضحك، وأضاف: رجلنا ورجلكم في "الفلقة" سوا... جنابه زعلان منكم ومنَّا كمان!

وعندما خرج الشَّباب، جلس الحاج مصطفى على طراحته، وأمسك ورقة وقلماً، وبدأ يكتب، ويشطب، ويكتب، ظل يفعل هذا إلى أن ابتسم، ووضع الورقة والقلم جانباً:

- هذه لازم يحفظها بو يوسف غداً.

في مجلس "البيك"...، في قاعة واسعة، وقف الشباب ينظرون إلى البيك الذي كان غاضباً غضباً شديداً، وجلس وجوه القرية على كراسٍ صغيرة، صفَّت على جانبي الأريكة الوثيرة التي كان يجلس عليها في صدر المجلس.

كان الصَّمت مخيماً، و"البيك" يفتل شاربيه المعكوفين مرة، ويعدِّل جلسة طربووشه مرَّة، ثم علا صوته فجأة، واستمر يعلو، وهو يقول:

- الشباب...، مهم أن يتحلَّى الشباب بالأخلاق الحسنة، والأدب الرَّفيع...، وأن يكونوا عاقلين متديّنين مطيعين...، وأن ينصرفوا إلى العمل لا إلى اللهو والمسخرة...

قطع كلامه، وتوجَّه إلى وجوه القرية الذين كانوا ينظرون إليه بتوتُّر وقلق:

- هم شبَّان طائشون...، وأنتم، يا أوادم القرية، يا كبارنا، ماذا تفعلون؟

لم يجبه أحد، واكتفى الوجوه بأن يتبادلوا النظرات، فأضاف "البيك"، وهو ينظر إلى الحاج خليل:

- لماذا لم تتعاونوا مع المختار؟

ثمَّ ابتسم وقال بهدوء: لا تستغربوا لن يبقى وكيل مختار...، والآن، قولوا لي: لماذا لم تتعاونوا معه، وجعلتموه يأتي ليشكو إليَّ الوضع؟

ساد صمت ثقيل، فبان الغضب في وجه البيك وعينيه، وقال بسخرية:

- سكتم سكوت المقرِّ بذنبه... "ألما ألو حجَّة ما إلو إلا السكوت منجِّي".

تنحنح الحاج مصطفى، وبدا أنه يتهيأ للكلام، فقال له البيك:

- شو يا حاج مصطفى، عندك شي تقوله؟

قال الحاج مصطفى: يا بيك، لو كنت محلنا، وعرفت اللي منعرفو كنت عملت متلنا.

سأل "البيك" بحدَّة: شو!؟ كيف!؟ أنا أعمل متلكم!؟

قال الحاج مصطفى:

- يا جناب البيك، إسأل بالأوَّل لَمِيْن كان الشباب يحوربون؟ واسأل ثانياً لماذا يغضب ابن الصيداوي منهم؟

قال البيك باهتمام: نسأل. هات خبِّرنا.

قال الحاج مصطفى: الشباب يحوربون لبو كامل، بابن الوائلي... وكل يوم عندهم حوروبة جديدة تعجب خاطركم...

تقدَّم أبو يوسف من بين الشباب، وهتف: أيوه يا جناب البيك...، بسمعك آخر واحدة ألَّفها لنا الحاج مصطفى زراقط.

قال البيك: سمِّعنا.

وضع أبو يوسف كفَّه قرب أذنه، وتعالى صوته الجميل المنغَّم، وهو يشير إلى صدره، وإلى رفاقه:

- العصا هذي، يا بو كامل، عصيتك

طول الدَّهر، ما عمري عصيتك

برمت الأرض كلِّها عَصيتك

ترى الرَّب هوي لحبَّبك عندنا.

ويشفعلك سيدنا المختار غدا

علا التصفيق، وعرضت ابتسامة البيك، فعاد صوت أبي يوسف يعلو منغماً، وهو يشير بيده إلى النافذة، ويحركها:

- العصا هذي، يا ابن الوائلي، عصتنا

ملوك الأرض ما عمرا عصتنا

الناس كلتها تخشى عصتنا

وأنت سيدها، وناشر فرحنا

ويشفعلك سيدنا الكرار غدا...

هتف البيك، وصفَّق، وقال بصوتٍ عالٍ: أحسنت...، أحسنت...، حضِّر غدا للشَّباب...

علا التصفيق والهتاف، وراح الجميع يرددون ما كان أبو يوسف يعيده منغَّماً...

ثم رفع البيك يده، وتوجَّه إلى الحاج مصطفى، وقال له، وهو يبتسم:

- ما بسامحك يا بو محمَّد؟

سأل الحاج: ليش جناب البيك؟

قال البيك: هذي وين كنت مخبِّيها؟

قال الحاج: كنت بحفِّظها للشباب في انتظار المناسبة، وها هي قد أتت...

ضحك البيك، وقال: ما دام هيك، غداكم اليوم عندي...، ولـمَّا بترجعوا حًوْربوا وطَبْلوا وزَمْروا وقْهروا بو جميل كمان...، وأنا بعرف لشو متضايق، مانو قرايب هوي وابن الاخليل في صور (ويقصد كاظم الخليل منافس أحمد الأسعد).

وتطلَّع إلى الحاج خليل وغمزه ضاحكاً.

شو كانَتْلك، يا بيك!؟

كان الحاج علي فهده (أبو حسين)، المعروف بـ"علي بيك" نجَّار باطون، سُمِّي بـ"معلِّم عمار الفقراء"، لأنَّه كان يصبر على من يعمل عندهم، فيرضى بالأجر القليل، وبتأجيل الدَّفع إلى أن ييسِّرها الله، سبحانه وتعالى، وكثيراً ما كان يسامح من لا يستطيع الدَّفع.

وكان أبو حسين رجلاً طيِّب القلب، سريع الابتسامة والضَّحك الذي سرعان ما يرقى إلى القهقهة التي تشيع الفرح، وكان يحبُّ المزاح، كريماً، يطيب له السَّهر مع الأصحاب، ولا يستطيب طعاماً إن لم يشاركه فيه أحد.

أقام أبو حسين في بيروت منذ الصِّغر، وعمل في ورشها، لكنَّه لم يطق العيش فيها، وأحبَّ العيش في القرية كثيراً، فكان يأتي إليها في كلِّ مناسبة، وطوال أيَّام الصَّيف، فبنى فيها بيتاً كبيراً على البيادر الجنوبية، على مقربةٍ من كروم صف الرُّمَّان، ما أتاح له أن يلبي رغبته في أن يمضي معظم أيامه في القرية، وفي أن يستضيف أصدقاءه، فأمضى أيَّامه يبني تصوينةً لهذا وغرفة لذاك، وبيتاً لأولئك...

كان لا يساوم أحداً على سعرٍ، ويخلط الجدّ بالمزاح، ويضحك ساخراً من الحياة، ومن الناس، ومن نفسه أحياناً.

خصَّص النهار للعمل واللَّيل للسَّهر، ورفاق السَّهر كُثُر يمضون ساعات اللَّيل الطويلة، وبخاصَّة في الشتاء، في شرب الشاي، وشيِّ الكستناء ورواية الطرائف والنَّوادر ولعب الورق.

وفي إحدى أماسي الشتاء الباردة العاصفة، دعا أبو حسين رفاق السهر إلى منزله كالعادة، فاشترى من لحم العجل ما يطيب ويكفي، ومن الفواكه والكستناء ما يزيد، ولم ينس أن يكثر من المازوت للصوبا أم الفرن، ففي آخر السهرة تحلو عرائس جبنة "القشقوان" المشوية في فرن الصوبا الحديدي.

حلي السَّهر وطال، وشمَّ الجيران جميعهم رائحة الشواء التي عبقت مدَّة طويلة. تناول الأصحاب الطعام اللذيذ، ثمَّ شربوا الشاي المخضَّر، ثم حكوا وضحكوا وحكوا، وهم ينتقون حباب الفاكهة الشهيَّة وحبات الكستناء المشوية، ثم بدأوا لعب الورق، وطال لعبهم.

لم تفارق الخسارة أبا حسين طوال اللعب، فتعكَّر مزاجه، وجلس جانباً، كما تقضي أصول اللعب، بأن يجلس الخاسر جانباً، يداري غضبه بالتعليق الساخر على هذا وذاك، ولم يفلت من تعليقاته أحد، فقرَّروا أنَّ "يستدُّوا" منه عندما تأتي الفرصة المناسبة.

ثمَّ هبَّت ريح عاصفة، أطفأت نار الصُّوبا، وطيَّرت أغطيتها... وعلا "الشحبار" في جوِّ الغرفة، وحوَّم، ثمَّ حطَّ على الفرش والمقاعد والطراريح، وكأن هذا لم يكف، فعندما كان أبو حسين يتحرك ليفعل شيئاً اصطدم بالسِّراج، فوقع وكسرت بلورته وانطفأ نوره.

وسرعان ما رمى رفاق السهر ورق اللعب من أيديهم، ونهضوا يتأفَّفون، ويقولون:

- شو هالسَّهرة المشحَّرة!؟ شو هالسهرة المشحَّرة يا بو حسين...!؟ شحَّرتنا... يا بو حسين! وخرجوا ينفض كل منهم ثيابه، من دون أن يهتموا لطلب الرجل المرتبك المتكرِّر منهم أن يساعدوه...

جلس الرجل الحزين على حافَّة البرندا يرتجف من البرد، يسمع ضحكات أصحابه، وأقوالهم: سهرة مشحَّرة... مليانة مسخرة...

نفخ في كفيه، حضن بهما وجهه، ثم راح يضرب خدَّيه ويردِّد:

- شو كانت لك، يا بيك...!؟ شو كانت لك يا عـ... علي بيك!؟

كان يردِّد هذا، ويسمع أصواتاً وضحكات تأتي من مكان قريب منه:

- مسخرة... مشحَّرة...

- صحيح شو كانت لك هالتشحيرة يا بيك... يا علي بيك؟

ولكن، هل تاب علي بيك عن السَّهر؟

لا، فبعد أيام، كانت الصُّوبا تستأنف شواء الكستناء وعرائس الجبنة، وصاحبها يضحك ويردِّد كلما تذكَّر تلك الليلة:

- شو كانت لك يا...

ولعلَّ هذا ما جعل لقب "بيك" لا يفارق اسمه.

وصار الناس يردِّدون هذا القول: "شو كانت لك..." كلَّما مرَّ أحدهم بحادثة مماثلة.

****

صرنا، يا صاحبي، اثنين!

في يومٍ من ايَّام الصيف شديدة الحرارة، وفي عزِّ الظهيرة الملتهبة، كان الحاج حسين الحاج مصطفى زراقط يقطف أكواز التين في كرمه المعروف بِـ"جلّ الحمَّارة". كان ينقِّي الأكواز الجيدة، ويضعها في السلَّة المركونة جانباً، ويختار أحلاها ويتذوَّقه على مهل...

ولما شعر بالتَّعب، جلس في فيء السنديانة العتيقة الكبيرة يمسح العرق عن وجهه، ويتأمَّل سلَّة التين الملأى بأكواز شهية خضراء... شقراء... صفراء... انتقاها بتأنٍّ من "النَّصبات" المثقلة بحمولتها في هذا الموسم المليء بالجنى، ليس بالتِّين وحده، وإنَّما بجميع أنواع المزروعات، فقد كان مطر ذلك العام غزيراً، وخصوصاً في نيسان، فجادت الأرض بخيراتها.

وكأنَّ الحيَّات شربت من ماء نيسان، كما يقال، فكثرت، وزاد نشاطها، وصارت تخرج من أوكارها في معظم أوقات النَّهار كأنَّها لا تخشى أحداً.

كان الحاج حسين، يجلس في فيء السنديانة العتيقة، وينتظر أن يأتي جاره الشيخ أحمد عبد اللطيف شمس الدين من قطعة الأرض المجاورة لجل الحمَّارة، المسماة "المُويْئِدة"، بمختاراته من عناقيد العنب اللَّيلية السوداء والبلّورية البيضاء كان قد وعد بها...

لكنَّه سمع فجأةً صراخاً يتعالى...

- يا...، يا...، يا بو العبد... يا بو العبد...

نهض الحاج حسين، وخطا صوب الجهة التي يأتي منها الصَّوت. أصغى جيِّداً، تكرَّر الصوت الذي يناديه، فعرف أنَّه آتٍ من " المُويْئِدة "، وإذ صار الصوت أكثر وضوحاً عرف أنه صوت الشيخ أحمد.

اقترب الصوت أكثر، وسمع الحاج حسين الشيخ أحمد يناديه:

- يا بو العبد، يا بو العبد، الله يخلِّيك، تعا لهَوُن بسرعة... الله يخلِّيك، ساعدني...

قال الحاج حسين في نفسه:

- هذا الشيخ أحمد...، لكن ماذا حدث!؟ أساعده على ماذا!؟ آ... يمكن على حمل سلَّة العنب...، يمكن قطف الكثير وملأ السلَّة، ولم يستطع حملها...

خطا صوب " المويْئِدة"، أطلَّ من فوق تلة صغيرة على شجرات التِّين ودوالي العنب، وأجال نظراته في المكان المشعُّ بالخضرة، فرأى الشيخ أحمد يلوِّح بيديه الاثنتين، ويصيح:

- تعال... تعال بسرعة...، اختبأت الملعونة في "الرُّجمة". تعال اقتلها قبل أن تختفي وتهرب...

سأله الحاج حسين بصوت عالٍ: شو، يا شيخ!؟ القصَّة فيها قتل يا شيخ!؟ وين العناقيد المتل الليل، والمتل البلور، والأحلى من العسل!؟

ضرب الشيخ أحمد صدره بقبضة يده، وقال:

- هوِّي وين ونحنا وين! إسَّا وقت عنب!؟ إنزل وشوف... وجيب معك عصا كبيرة... كبيرة...

سأل الحاج حسين: شو صاير!؟ شو بدِّي شوف!؟ ولشو العصا!؟

قال الشيخ أحمد: شو بدك تشوف!؟ تعا لهون وشوف... شو بدي إلَّك لإلَّك، حيَّة طولها متران وأكثر ولونها... ولونها مرقَّطة...

صمت لحظة، وأضاف، وهو ينظر إلى الحائط:

- ها هي عادت... طلَّت من بين الحجارة...، عم تطلَّع فيِّي وتلعب بلسانها... يللَّا جيب العصا وتعا...

قال الحاج حسين: اقتلها يا شيخ...، اضربها بالحجارة واقتلها.

فقال الشيخ أحمد ضاحكاً:

- والله، هاي نصيحة عظيمة...، لو قادر اقتلها كنت عيَّطتلك!...

اقترب الحاج حسين أكثر، فرأى الشيخ يلوِّح بيديه الاثنتين، فأشار إليه بيديه أن تعال، وهو يضحك، ويقول: تعا اقعد حدِّي، وما تنسى تجيب العنبات...

ثمَّ جلس في فيء شجرة البطم، وهو يبتسم، ولما وصل الشيخ أحمد، وقف يحتضنه ويقول: صرنا اثنين يا شيخ.. ما إلنا علاقة بالحيَّات...

هَوْ الِّلي قسمو البركة بالبلاَّن

يتندَّر أهل القرى المجاورة لقرية مركبا بأن ابناء هذه القرية قسموا البركة التي تقع في أوَّل القرية القديمة، من جهة الشرق، قرب السَّاحة العامَّة، بالبلاَّن. وهذا يعني سذاجة هؤلاء وبساطتهم لأن البلاَّن لا يشكِّل حاجزاً بين الماء والماء، لأنَّه لا يمنع التسرُّب والاختلاط...

يروي كبار السنِّ في القرية أصل هذه الحادثة، فيقولون:

إنَّ البركة كان تلبِّي حاجة القرية الملحَّة إلى الماء، وكانت هذه البركة تجف في أواخر الصيف، وأوائل فصل الخريف...، وتبقى ممتلئة بالوحول. وكان من الضَّروري أن يتم نقل الوحل منها، وهو ما يعرف بـ"تعزيل البركة" إلى مكانٍ مجاورٍ لها صار يُعرف بـ"تلْ البركة" لكثرة ما نُقل منها إليه من وحل نشف وصار تراباً يصلح لتتريب الأرض.

كان من الضروري أن "تُعزِّل البركة"، لتتَّسع، وتعود لتمتلئ بمياه الأمطار الكافية لتلبية حاجة القرية للماء في فصلي الربيع والصيف وأيام أو أسابيع من فصل الخريف.

ولكن كان كثير من الناس يتلكأون في القيام بمهمة "التعزيل"، فارتأى وجوه القرية أن يلزموا الناس بالقيام بهذه المهمَّة، وأن يقسِّموا العمل قسمة عادلة، ولذلك قسَّموا مساحة البركة الموحلة أقساماً، وأوكلوا إلى كلِّ عائلة أن "تعزِّل" قسماً جعلوه من نصيبها، ولم يجدوا أداة صالحة لذلك سوى البلاَّن. وهكذا كان، فصارت كل عائلة تقوم بـ"تعزيل" القسم الذي جُعل من نصيبها...

وما إن عرف أبناء القرى المجاورة بذلك حتى صاروا يتندَّرون بهذا العمل، مُغْفلين أنَّ القسمة كانت للوحول، وليس للماء، والفرق كبير جداً بين القسمتين، وهذا عائد إلى أن القرى المتجاورة، "تركِّب" إحداها للأخرى "خبريات" صالحة للتندُّر والمزاح.

خِلْد يا بن خلديَّة...

كان الحاج علي محمد الحاج حسن حيدر (أبو حسين)، رجلاً نافذ البصيرة، ذا فكر نقدي لا يرتضي إلاَّ ما يرتضيه العقل، ويجادل في ذلك كثيراً. وتروق له النادرة الطريفة، ويرويها بأدق التفاصيل.

حدث، ذات مرَّة، أن رُويت عنه حادثة طريفة يرويها العارفون بها كما يأتي:

لم يكن أبو حسين فلاَّحاً محترفاً، وإنما كان نجَّار باطون ومعلِّم ورقة ماهراً، ويجرِّب العمل في كثير من المهن الأخرى. جرَّب، ذات سنة، وكانت فرص العمل قد صارت نادرة، في زمن الاحتلال ومقاومته، الزِّراعة، فزرع قطعة أرض يملكها اسمها "المرج" بصلاً.

نسب إليه رفاق سمره وسهره أقوالاً كثيرة عن بصل "المرج" المتميِّز الذي لا يشبهه أي بصل في العالم، ونقلوا عن لسانه أنه قال:

- اطمئنوا، يا أبناء قريتنا، لن تحتاجوا إلى بصل بعد هذا الموسم... قرَّرت أن أشتري شاحنة صغيرة لأنقل بصل "المرج" وأوزِّعه في المنطقة!

كان يسمع ما ينقل عنه، فيهز رأسه، ويقول: حكي غيرانين...

وكان يكثر من تفقُّد بصلات المرج والعناية بها، ويعد نفسه بموسم وفير.

وفوجئ، ذات يومٍ، بأكوامٍ من التراب الأحمر الناعم تنتشر قرب البصيلات الخضراء النابتة حديثة، وبدا واضحاً أنها بدأت تذبل، فشعر بألم شديد في صدره، فراح يمسِّده على مهل.

لم يكن بحاجة إلى من يقول له: هذا هو الخلد...، فهو يعرف ذلك، ويعرف كيف سيعالج الأمر، ويقضي على هذا العدو القادم من باطن الأرض، ليهدِّد موسماً علَّق عليه الكثير من الآمال، وكأن لم يكف العدو الغاشم الذي يحتلُّ الأرض وينكِّل بأبنائها حتى يأتي هذا العدو أيضاً!؟

جرَّب الكثير من الوسائل المعروفة والمجرَّبة من قِبل الفلاحين، لكن من دون جدوى، إذ إن الكوم كانت تزداد يوماً بعد يوم، ما يعني أن أكثر من خلد يحفر في باطن الأرض، ويقرض جذور البصيلات الطريَّة.

فكَّر في الأمر، وشاركه في التفكير كثيرون، وقدَّموا له نصائح كثيرة، جرَّبها كلها، ولكن من دون جدوى، فالكوم تزداد، والبصلات الخضراء صارت تزداد ذبولاً.

كانت الجلسات التي تبحث عن حلٍّ لهذه المشكلة تعقد في السَّاحة العامَّة، وكل من يأتي إليها ينضم إلى الجالسين، ويشارك في إبداء رأي. ولما كان عدد سكان القرية، آنذاك، بعد أن هجَّرهم العدو المحتل، قليلاً، يمكن القول: إنَّ معظم سكان القرية أدلوا بآرائهم، ولكن هذا كله لم يحل المشكلة التي ما انفكت تتفاقم.

وذات يوم، أنضمَّ الحاج أحمد رشيد شحيمي إلى الجالسين، وأصغى إلى المتحدِّثين، وهو يهزُّ رأسه ويبتسم، ولـمَّا أنس فرصة للمشاركة في الحديث، بادر إلى القول:

- تقولوا ولا تعيدوا...، ما بيحلَّها إلاَّ محسوبكم...

وصمت مركِّزاً نظراته على أبي حسين الذي كان ينظر إليه مبتسماً...

تسمَّرت النَّظرات على الحاج أحمد، وعلت البسمات الوجوه، فهم يعرفون تعليقاته الطريفة، وما زالوا يتذكرون واحداً منها، فذات مرَّة سمع الشباب التقدميين، أو جماعة المستوصف، وكان هو يؤيد كامل بيك، يقولون: "علي حيدر قال... علي حيدر... ذهب إلى... علي حيدر يرى..."، ورآهم يزورونه كثيراً، وكان يعلم أنهم يناصبون البيك العداء، فقال، وهو يهز رأسه:

- علي حيدر... علي حيدر آل... هيدا علي محمد الحاج حسن وبس... علي حيدر آل...

لم يطل الصمت، إذ قطعه الحاج قائلاً لأبي حسين:

- أوم... أوم لقلَّك أوم... عندي وصفة ما بدِّي حدا يسمعها غيرك...

قال هذا، ونهض، وتوجَّه صوب بيت أبي حسين الملاصق للساحة العامَّة، تثاقل أبو حسين، فالتفت إليه، وقال بحدَّة: بتجي أو برجع.

قال أبو حسين: لاحقك... لاحقك يا حاج...

وفي البيت، دار بين الرَّجلين حوار بدأه الحاج أحمد بالقول:

- أنا عندي جرَّة فخار قديمة.

- الله يبارك لك فيها...

- أنا مش عم بمزح.

- أنت عندك جرَّة، وأنا شو خصّني!؟

- سبحان الله! دائماً مستعجل، اتركني كفِّي.

- تفضَّل كفِّي.

- بنجيبها، وبنكسِّرها شقف.

- بتكسِّرها!؟ ليش!؟ حرام يا حاج! لشو الخسارة!؟

- بتسمع أو برجع!؟

- لأ بسمع... بس أدخل بالمفيد..

- بنكسِّرها شقف صغيرة...، وبتكتب على كل شقفة اللي بقلك ياه...، وبتطلع عالمرج، وبتحط كل شقفة بكومة تراب...، وبتقرا الدعا اللي رح علمك ياه...، وبكرا عابكرا بتقول للخلد السلام عليكم.

- وعليكم السلام... أقعد ياج تنشرب شاي.

- شو مش عاجبك!؟ أنا عم اكسر جرَّتنا القديمة كرمالك...

- منشرب شاي أحسن.

قال الحاج بغضب: إنت حرّ. وخرج، وهو يضرب الأرض بخطواته السريعة.

أعاد ابو حسين محاولاته، لكن أكوام التراب الناعم الأحمر كانت تزداد. وصارت البصيلات الخضراء تعلو في الأيام الأخيرة، كأنَّها رايات النصر يرفعها الخلد في وجه صاحب الأرض الذي كان يزداد قلقاً على موسمه المهدَّد بالتلف، فقرر أن يجرب وصفة الحاج أحمد، وسوَّغ ذلك بقوله لنفسه:

- طيِّب... بنجرِّبها شو خسرانين!؟

ذهب إلى منزل الحاج في أوَّل الليل، واعتذر منه، فرحَّب الحاج به، وبدآ العمل، كسرا الجرَّة شقفاً صغيرة، وكتبا على كل شقفة ما كان يحفظه الحاج أحمد من كلمات. وعاد أبو حسين إلى منزله، وهو يحمل كيساً ثقيلاً.

وفي صباح اليوم التالي، حمل أبو حسين الكيس ومجرفة،، وخرج من منزله قاصداً المرج، فالتقى في وسط الطريق بحسين الشيخ يقود سيارته العتيقة على مهل... وهو رجل دقيق الملاحظة، لاذع النكتة، ساخر...، كان يأتي، بين حين وآخر، من قريته حولا، ليزور أبا حسين، فيشربان الشاي، ويتحدَّثان في شؤون شتَّى...

توقَّف حسين الشيخ قرب أبي حسين، وأطلَّ من نافذة السيَّارة، ودار بينهما حوار، بدأه حسين الشيخ بقوله:

- إلى أين يا بو حسين؟

- إلى المرج...

- أنا آت من حولا لعندك.

- عندي عمل ضروري لا يؤجَّل... أكمل طريقك، وانتظرني في البيت حتى أعود...

- الأفضل ... بوصَّلك عالمرج... تقوم بعملك، ونعود معاً. وإن احتجت لمساعدة أساعدك، والله مش حابب تقعد معي اليوم!؟

- لا... لا... مش ممكن انتظرني، أو ارجع بعد الظهر...

قال أبو حسين هذا، ومشى مسرعاً، وصل إلى المرج، وبدأ العمل: يجرف كومة التراب، ويضع شقفة الفخار في الفتحة، وفيما كان يعمل بسرعة، فوجئ بصوتٍ عالٍ يسأله:

- شو يا بو حسين... بدَّك تقتل الخلد بشقف الفخار!؟

فرفع رأسه، فرأى حسين الشيخ يمسك شقفة فخار، ويقرأ ما كُتب عليها ويضحك، ويقول: يا حيف عليك يا صاحبي...! كل فكري إنك عاقل!

أخبره أبو حسين بالأمر، فتظاهر بالجديَّة والاهتمام، وقال: عندي حل أحسن من هيك.

سأله أبو حسين بلهفة: ما هو؟

أجاب: الحل يا صاحبي سهل كثير...

عاد أبو حسين يسأله: ما هو؟

أجاب: تكتب على كل شقفة: يا خلد يا بن خلديَّة، اترك المرج وروح عاخلَّة القبلية.

وقهقه بصوتٍ عالٍ، ثم راح يقهقه على مهل: قه... قه... قه... يا خلد... ياااا بن خلديَّة...

ضحك أبو حسين، وقال له، وهو يرمي الشقف: قلة عقل... رجاع نشرب شاي ونحكي...

إذا شربت حنجولة شرب العجَّال!؟

كان أطفال القرية، في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، كما كانوا منذ زمن قديم، يتعلَّمون في كتَّاب القرية، والكتَّاب عبارة عن غرفة واحدة يستأجرها أهل القرية ليتعلَّم فيها أبناؤهم مبادئ القراءة والكتابة والحساب والخط على يد "شيخ" لم يكمل مراحل التعليم الديني في النجف الأشرف.

كانت مدَّة الدِّراسة في الكتَّاب تنتهي عندما يختم التلميذ القرآن الكريم، فيتخرَّج، وكان التلامذة يختمون القرآن الكريم واحداً بعد الآخر، وكانت العادة، لدى خَتْمه القرآن، والتخرُّج، تقضي بأن يذهب التلميذ الذي يلي التلميذ المتخرِّج، ويضرب رجل أمه بكرة من القماش، ويأخذ "الحلاوة" منه للشيخ...

ثمَّ، وبعد استقلال الجمهوريَّة اللبنانيَّة، أرسلت الدَّولة مدرِّساً ليدرِّس أطفال القرية، فتمَّ استئجار غرفة له في بيت الشيخ محمد عبد اللطيف شمس الدين، أو في بيت الشيخ محمود عبد النبي، أو في بيت الحاج عبد علي بيضون. وكان هذا المدرِّس يسمَّى مدرِّساً منفرداً، يدرِّس المواد المقرَّرة في منهج وزارة التربية الوطنية جميعها، فيخصِّص لكلِّ صفٍّ ساعة أو ساعتين.

ولما كثر عدد التلامذة، واستدعت الحاجة تدريس صفوف جديدة، وعدَّة غرف ومدرِّسين، ذهب وجوه القرية إلى "البيك"، ليوسِّطوه لدة وزارة التربية، لتبني مدرسة حديثة كبيرة، وترسل عدداً كافياً من المدرِّسين؟

وعد "البيك" وجوه القرية غير مرَّة بتلبية طلباتهم. ولما كثرت مراجعاتهم له، واشتد إلحاحهم عليه، قال لهم، في إحدى المرات، وهو يبتسم:

- لم تريدون أن تعلِّموا أبناءكم وتُتْعِبوهم في تحصيل العلم!؟ يكفي أني أعلِّم لكم ابني الغالي.

ضحك أبو علي (اسم مستعار)، وقال لأصحابه الذين كانوا يتبادلون الأنظار متعجِّبين:

- صدق المثل: "إذا شربت حنجولة، شرب العجَّال!".

ضحك الجميع. كان البيك ينظر إليهم، وهو مشدود الانتباه إليهم. سمع ما قاله بو علي، ورأى البسمات على الوجوه، فزمَّ شفتيه، وقطَّب جبينه، فكتم الرجال أنفاسهم، بعد أن أطبقوا شفاههم.

ولما أرادوا الخروج، طلب "البيك" من أبي علي أن يبقى جالساً في مكانه، فلديه كلام خاصٌّ معه. بقي أبو علي جالساً. ولما خرج الجميع، بادره "البيك" بالسُّؤال:

- شو قصَّة "حَنْجُولة"!؟

ارتبك أبو علي، وتاهت نظراته في أرجاء القاعة الواسعة.

فأضاف "البيك": إحك ولا تخف. أنا بحب الرجَّال الجريء الفهمان.

بقي أبو علي ساكتاً، وراح يفتل شاربيه على مهل. ابتسم "البيك"، ونهض، واقترب من أبي علي، وربَّت على كتفيه، وقال له، وهو يبتسم ابتسامة عريضة:

- أنت ضربت مَثَلاً، وأنا بحب الأمثال الشعبية وحكاياتها..

تنحنح أبو علي، ورطَّب شفتيه بلسانه، فقال "البيك": طيب بتشرب قهوة وبتحكي...

ونادى: هاتوا قهوة مرَّة لبو علي... وحَضْروا غدا طيِّب كمان.

رشف أبو علي القهوة على مهل، وراح يحكي:

يقتني كثير من أبناء القرية، من البقر، ما لا يحتاج إلى أن يخصِّص له راعٍ خاص، أي بقرة أو اثنتين...، فيجمع هذا البقر، من بيوت أهل القرية، في "الصِّيرة"، وهي ساحة مسوَّرة تعود ملكيتها للقرية، أي تكون ملكيَّة عامَّة، ويسمَّى "العجَّال". ويُخصَّص له راعٍ يتلقى أجرة عن رعي كل بقرة.

يقِلُّ الماء، في القرية، كما في كل قرانا في الصَّيف، وتجفُّ مياه البركة التي تُستخدم في تلبية حاجات كثيرة في القرية، ومنها شرب الحيوانات.

في إحدى المرَّات، كان عند أحد وجهاء القرية الكبار بقرة حلوب، واسعة العينين، لون جلدها أسود حالك، مبقَّع بالأبيض النَّاصع، تختال إذا مشت، وترفع رأسها إذا نوديت باسمها "حنجولة" كأنَّها تصغي للنِّداء. وكان صاحبها وأفراد أسرته يدلِّلونها، وكذلك كان يفعل الراعي، وكثير من أبناء القرية.

ذات صيف، قلَّت المياه في القرية، وجفَّت مياه البركة، وكان لا بدَّ من توفير الماء اللازم لشرب بقر العجَّال، فجاء أصحاب البقر إلى بيت الوجيه الكبير ليبحثوا في الأمر، فبادرهم منذ أن وصلوا بالقول:

- والله، اليوم، حرقت "حنجولة" قلبي... شفتها ذبلانة... بَسْ...

قاطعه الرجال: طيِّب شو بنعْمَل!؟

فقال: لا تخافوا... حليناها...، دبَّرنا سطل ماء من البير، وشربت "حنجولة" ,... فهبَّ الجميع صائحين:

- يعني إذا شربت "حنجولة" شربت "العجَّال"!؟

قال: صحيح... صحيح... إذا شربت "حَنْجولة" ما شِرْب العجَّال"!

ضحك "البيك" ضحكات متقطعة، وقال: يعني ابني صار حنجولة، يا بو علي!؟

وقف أبو علي، وخطا صوب "البيك" وقال:

- مثل بينقال يا "بيك"، وفهمكم كفاية.

وخرج.

صاح البيك: والغدا، يا بو علي!؟

التفت أبو علي إلى "البيك"، وقال:

- الرجال عم يستنُّوني... لازم الحقهم...

وحثَّ الخطى، وهو يبتسم، يتمتم:

- يعني إذا تغدَّى بو علي تغدَّى الرِّجال!؟


بين السَّهر وزراعة الدَّخان
ما في اتفاق مثل النار وهاالابريق الخربان


كان موسم زراعة الدَّخان متعباً، فالعمل يبدأ منذ الصَّباح الباكر حتى المساء، ما يقتضي النَّوم باكراً. لكن رجالاً، مثل السيد محمد السيد جواد عطوي (أبو عبد الله) والسيد محمود السيد شريف عطوي (أبو علي) والحاج موسى قشمر (أبو أمين)، كانوا يحرصون على السَّهر في بيت أحدهم، حيث يتم شرب الشاي المخضَّر وتبادل الأحاديث.
وذات يوم، هيَّأ أبو أمين عدَّة السَّهرة، فأشعل "البريموس"، ووضع عليه إبريق الشاي الكبير، وعندما صار الماء في درجة الغليان، صبَّه فوق الشاي في "الكوري"، واستلقى على الطَّراحة الكبيرة في انتظار ضيفيه، وما لبث أن غفا. جاء الضيفان واستلقيا، كل على طراحة، وناما نوماً عميقاً، ولم يستيقظ الجميع إلا على رائحة الحريق تغزو الأنوف، وعلى الدخان يدمع العيون، ويبعث على السعال، وفوجئوا بالإبريق الكبير وقد جفَّ ماؤه وبدأ يحترق، فأسرعوا وأطفأوا نار "البريموس"، وفتحوا الشبابيك، وخرجوا إلى النوم، وهم يردِّدون: "بين السَّهر وزراعة الدَّخان، ما في اتفاق، متل النار وهالابريق الخربان".
 
صحبة الخلاَّن أغلى من الذهب الرَّنَّان


كانت تقام في بلدة "الخالصة"، الواقعة على مقربة من الحدود بين لبنان وفلسطين، قبل أن يحتلها الصهاينة، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، سوقٌ شعبيَّة تباع فيها مختلف أنواع البضائع، من حبوب وثمار وبيض ودجاج ومواشٍ وأدوات الزراعة...
كان أبناء القرى والبلدات الحدودية اللبنانية والفلسطينية وكثير من أبناء المناطق البعيدة، يقصدون هذه السوق لشراء ما كانوا يحتاجون إليه، أو ليقوموا بالتبادل التجاري، أو يعقدوا صفقات تجاريَّة... كما كانت هذه السوق ملتقى يتمُّ فيه التعارف وتبادل الآراء في أمور البلاد.
وكثيراً ما كانت تعقد الصداقات في هذه السوق، وهذا ما حدث بين عدد من أبناء قرية مركبا وعدد من أبناء تلك البلدة، فقد كان أبناء قرية مركبا يأتون إلى الخالصة ليحضروا سوقها قبل يوم من موعدها، ويبيت كل منهم عند صديقٍ له، فيحضر الضيف معه بعض الهدايا، ويقوم المضيف بإكرامه كما تقضي عادات أبناء القرى العربيَّة.
ذات مرَّة، ذهب الحاج مصطفى زراقط والسيِّد عبد الله عطوي إلى الخالصة في اليوم الذي يسبق يوم السُّوق، وكلٌّ منهما يريد شراء بقرة، أو بقرتين، ونزلا عند صديق لهما، كانا ينزلان عنده عندما يأتيان إلى الخالصة، وفِّق السيِّد عبد الله إلى ما يريد في اليوم الذي وصل فيه، وعاد إلى قريته، وبقي الحاج مصطفى في ضيافة صديقه ليحضر السوق في اليوم التالي، فيشتري ما يحتاجه.
بعد سهرة قصيرة، فرشت سيدة البيت للضيف فرشة جديدة، في غرفة لاستقبال الضيوف، وذهب الجميع للنوم. غير أنها أرقت وتقلبت كثيراً في فراشها، كانت قلقة من أجل ليرتين ذهبيتين كانت قد خبأتهما في الفرشة الجديدة. وفي الصباح الباكر، وبينما كان الضيف يتهيأ للخروج إلى السوق، دخلت الغرفة مسرعة، وتفقدت ليرتيها فلم تجدهما حيث وضعتهما، فخرجت من الغرفة حزينة، وأشارت إلى زوجها بأنَّها تريد أن تتحدث إليه على انفراد، ولما أتى إليها أخبرته بما حدث، فبهت، وراح يفرك كفيه، ويعض شفته السفلى، فأشارت عليه بأن يسأل ضيفه عما إذا كان وجد الليرتين، رفض بشدة، ألحت ولمَّا واصلت إلحاحها.
لاحظ الحاج مصطفى أن أمراً ما يحدث. إذ كانا يتحدثان ويشيران إليه، فاقترب منهما وسألهما عما إذا كان هناك أمر يعنيه، تردَّدا، فاقسم عليهما بأن يخبراه، ففعلا، فابتسم وأخرج ليرتين ذهبيتين كانتا معه، وقال لهما: اطمئنا... هاتان ليرتان وجدتهما في الفراش، وكنت سأعطيهما لكما...، وخرج قاصداً قريته لأنه لم يعد يملك مالاً يشتري به ما جاء لشرائه.
دخلت المرأة إلى الغرفة التي نام فيها الضيف، وأخذت تنفض الفراش، وتلمه، وفوجئت بالليرتين تقعان أمامها. فصرخت: واجرستاه... واجرستاه... جاء زوجها يسأل عما حدث، فأخبرته بالأمر، وأرته الليرتين، فخرج يركض، ولحق بالحاج مصطفى، فناداه وهو يلهث: يا حاج، يا حاج... توقف الحاج، وهو يبسمل ويحوقل...، وسأل الرجل: ألم تأخذ ليرتيك؟ ماذا تريد بعد؟ قال الرجل: وجهي منك في الأرض...، عثرنا على ليرتينا. انفرجت أسارير الحاج، فبادره الرجل: لكن قل لي: لماذا فعلت ما فعلته؟ فقال الحاج:
-    لو قلت لك لم أجدهما... ووصل بك الأمر إلى أن تفتشني وتجد الليرتين معي ماذا كان سيحدث؟ لقد أعطيتك الليرتين، وكلي ثقة بأنك ستجد ليرتيك... وبأنَّك ستعيد إليَّ ليرتي وتعتذر مني.
قال الرجل: أنا أعتذر منك فعلاً، وستبقى في ضيافتي أياماً... بل أسابيع... فصحبة الخلان أغلى من الذهب الرنَّان".

 

 



([1]) ابن منظور، لسان العرب، مادة مثل.

([2]) المعجم العربي الأساسي، المنظمة العربيَّة للتربية والثقافة والعلوم، 1989، مادة مثل، ص. 118.

([3]) رودولف زلهايم، الأمثال العربيَّة القديمة، ترجمة عبد التواب رمضان، بيروت: مؤسَّسة الرِّسالة، ط. 2، 1982، ص. 70.

Bookmark and Share

التعليقات على المقالة 3

حوراء حمود18/5/2016

قصص رائعة ..

عماد السلمان14/6/2015

حبيت ألكن عن مثل كان على لسان كتير ناس من أهل مركبا وحتى في عديسة و الطيبة : لأرد حسيب
هههه أكيد بتعرفو شو حكايت هذا المثل

MAHMOUD ZARAKET4/4/2013

IT IS REALY LOVELY STORYS BUT THERE ARE NO KASHKAWAN CHEESE IN THAT TIME (ALI BEIK ABOU HUSSEIN)

أضف تعليقك على الموضوع



malware removal and website security

جميع الحقوق محفوظة لــ موقع بلدية مركبا

2012-2014